حمل مصحف وورد وبي دي اف.

الأحد، 6 يونيو 2021

ج8../كتاب : الإحكام في أصول القرآن المؤلف : ابن حزم

 ج8../كتاب : الإحكام في أصول القرآن

المؤلف : ابن حزم

اتفقوا على أن حكم الحاكم لا يجوز نقضه في المسائل الاجتهادية لمصلحة الحكم فإنه لو جاز نقض حكمه إما بتغيير اجتهاده أو بحكم حاكم آخر لأمكن نقض الحكم بالنقض ونقض نقض النقض إلى غير النهاية.
ويلزم من ذلك اضطراب الأحكام وعدم الوثوق بحكم الحاكم وهو خلاف المصلحة التي نصب الحاكم لها وإنما يمكن نقضه بأن يكون حكمه مخالفاً لدليل قاطع من نص أو إجماع أو قياس جلي وهو ما كانت العلة فيه منصوصةً أو كان قد قطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع كما سبق تحقيقه.
ولو كان حكمه مخالفاً لدليل طني من نص أو غيره فلا ينقض ما حكم به بالظن لتساويهما في الرتبة ولو حكم على خلاف اجتهاده مقلداً لمجتهد آخر فقد اتفقوا على امتناعه وإبطال حكمه ولو كان الحاكم مقلداً لإمام وحكم بحكم يخالف مذهب إمامه فإن قضينا بصحة حكم المقلد ضرورة عدم المجتهد في زماننا فنقض حكمه مبني على الخلاف في أنه هل يجوز له تقليد غير إمامه فإن منعنا من ذلك نقض وإلا فلا.
وأما المجتهد إذا أداه اجتهاده إلى حكم في حق نفسه كتجويز نكاح المرأة بلا ولي ثم تغير اجتهاده فإما أن يتصل بذلك حكم حاكم آخر أو لا يتصل: فإن كان الأول لم ينقض الاجتهاد السابق نظراً إلى المحافظة على حكم الحاكم ومصلحته.
وإن كان الثاني لزمه مفارقة الزوجة وإلا كان مستديماً لحل الاستمتاع بها على خلاف معتقده وهو خلاف الإجماع وأما إن كان قد أفتى بذلك لغيره وعمل ذلك الغير بفتواه.
ثم تغير اجتهاده فقد اختلفوا في أن المقلد هل يجب عليه مفارقة الزوجة لتغير اجتهاد مفتيه والحق وجوبه كما لو قلد من ليس له أهلية الاجتهاد في القبلة من هو من أهل الاجتهاد فيها ثم تغير اجتهاده إلى جهة أخرى في أثناء صلاة المقلد له فإنه يجب عليه التحول إلى الجهة الأخرى كما لو تغير اجتهاده هو في نفسه.
المسألة التاسعة المكلف إذا اجتهد في مسألة حصلت له أهلية الإجتهاد فيها اتفقوا على أنه لا يجوز له تقليد غيره في خلاف ما أوجبه ظنه المكلف إذا كان قد حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل فإن اجتهد فيها وأداه اجتهاده إلى حكم فيها فقد اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه وترك ظنه.
وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا فيه فقال أبو علي الجبائي: الأولى له أن يجتهد وإن لم يجتهد وترك الأولى جاز له تقليد الواحد من الصحابة إذا كان مترجحاً في نظره على غيره ممن خالفه وإن استووا في نظره يخير في تقليد من شاء منهم ولا يجوز له تقليد من عداهم وبه قال الشافعي في رسالته القديمة.
ومن الناس من قال: يجوز له تقليد الواحد من الصحابة أو التابعين دون من عداهم قال محمد بن الحسن: يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه ولا يقلد من هو مثله أو دونه وسواء كان من الصحابة أو غيرهم وقال ابن سريج يجوز تقليد العالم لمن هو أعلم منه إذا تعذر عليه وجه الاجتهاد.
وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وسفيان الثوري يجوز تقليد العالم للعالم مطلقاً.
وعن أبي حنيفة في ذلك روايتان وقال بعض أهل العراق: يجوز تقليد العالم فيما يفتي به وفيما يخصه ومنهم من قال بجواز ذلك فيما يخصه دون ما يفتى به ومن هؤلاء من خصص ذلك بما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد.وذهب القاضي أبو بكر وأكثر الفقهاء إلى منع تقليد العالم للعالم سواء كان أعلم منه أو لم يكن وهو المختار.
إلا أن القائلين بذلك قد احتجوا بحجج ضعيفة لا بد من ذكرها والتنبيه على ضعفها ثم نذكر بعد ذلك ما هو المختار.
الحجة الأولى: أن من له أهلية الاجتهاد متمكن من الاجتهاد فلا يجوز مع ذلك مصيره إلى قول غيره كما في العقليات.
الثانية: أنه لو كان قد اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام لم يجز له تقليد غيره وترك ما أدى إليه اجتهاده فكذا لا يجوز له تقليده قبل الاجتهاد لإمكان أن يؤديه اجتهاده إلى خلاف رأي من قلده.
الثالثة: أنه لو جاز لغير الصحابة تقليد الصحابة مع تمكنه من الاجتهاد لجاز لبعض الصحابة من المجتهدين تقليد البعض ولو جاز ذلك لما كان لمناظراتهم فيما وقع بينهم من المسائل الخلافية معنى.

الرابعة: أن الصحابة كانت تترك ما رأته باجتهادها لما تسمعه من الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم فكان عمل غيرهم بالخبر وترك العمل برأيهم أولى.
ولقائل أن يقول على الحجة الأولى: إنما لم يجز التقليد العقليات ضرورة أن المطلوب فيها هو العلم وهذا غير حاصل بالتقليد بخلاف مسائل الاجتهاد فإن المطلوب فيها هو الظن وهو حاصل بالتقليد فافترقا.
وعلى الثانية: أنه إذا اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام فوثوقه به أتم من وثوقه بما يقلد فيه الغير لأنه مع مساواة اجتهاده لاجتهاد الغير يحتمل أن لا يكون الغير صادقا فيما أخبر به عن اجتهاده والمجتهد لا يكابر نفسه فيما أدى إليه اجتهاده.
وقبل أن يجتهد لم يحصل له الوثوق بحكم ما فلا يلزم من امتناع التقليد مع الاجتهاد امتناعه مع عدمه.
وعلى الثالثة: أن من المخالفين في هذه المسألة من يجوز تقليد الصحابة بعضهم لبعض إذا كان المقلد أعلم كما سبق في تفصيل المذاهب في أول المسألة وبتقدير التسليم فلا يخفى أن الوثوق باجتهاد الصحابي لمشاهدة الوحي والتنزيل ومعرفة التأويل والاطلاع على أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وزيادة اختصاص الصحابة بالتشدد في البحث عن قواعد الدين وتأسيس الشريعة وعدم تسامحهم فيها أشد من غيرهم على ما قال عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه " أتم من الوثوق باجتهاد غير الصحابي.
وما مثل هذا التفاوت فغير واقع بين الصحابة وعلى هذا فلا يلزم من جواز تقليد غير الصحابي للصحابي تقليد الصحابي للصحابي.
وعن الرابعة: أن الخبر لا يخلو إما أن يكون صريحاً في مناقضة مذهب الصحابي أو لا يكون صريحاً بل دلالته على ذلك ظنية اجتهادية: فإن كان الأول فلا خفاء في امتناع تقليد الصحابي معه كما يمتنع على الصحابي العمل برأيه مع ذلك الخبر.
وإن كان الثاني فلا نسلم أنه يجب على الصحابي الرجوع إليه مع استمراره على اعتقاد ما رآه أولاً وترجيح ما أداه إليه اجتهاده على ذلك الخبر وعلى ذلك فلا يمتنع تقليد الصحابي مع وجود ذلك الخبر.
والمعتمد في المسألة أن يقال: القول بجواز التقليد حكم شرعي ولا بد له من دليل والأصل عدم ذلك الدليل فمن ادعاه يحتاج إلى بيانه ولا يلزم من جواز ذلك في حق العامي العاجز عن التوصل إلى تحصيل مطلوبه من الحكم جواز ذلك في حق من له أهلية التوصل إلى الحكم وهو قادر عليه ووثوقه به أتم مما هو مقلد فيه لما سبق.
فإن قيل: دليل جواز التقليد في حق من لم يجتهد وإن كانت له أهلية الاجتهاد الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
أما الكتاب فقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل 43 أمر بالسؤال وأدنى درجاته جواز اتباع المسؤول واعتقاد قوله وليس المراد به من لم يعلم شيئاً أصلاً بل من لم يعلم تلك المسألة ومن لم يجتهد في المسألة وإن كانت له أهلية الاجتهاد فيها غير عالم بها فكان داخلاً تحت عموم الآية وأيضاً قوله تعالى: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " النساء 59 والمراد بأولي الأمر العلماء أمر غير العالم بطاعة العالم وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما هو مذهبه.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " وقوله صلى الله عليه وسلم: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين " من بعدي وقوله عليه السلام: " اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر " وأما الإجماع فهو أن عمر رجع إلى قول علي رضي الله عنه وإلى قول معاذ وبايع عبد الرحمن بن عوف عثمان على اتباع سنة الشيخين أبي بكر وعمر ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة مع أن المقلد كان أهلاً للاجتهاد فصار ذلك إجماعاً.
وأما المعقول: فهو أنه لا يقدر باجتهاده على غير الظن واتباع المجتهد فيما ذهب إليه مفيد للظن والظن معمول به في الشرعيات على ما سبق تقريره فكان اتباعه فيه جائزاً.
والجواب عن الآية الأولى: أن المراد بأهل الذكر أهل العلم أي المتمكن من تحصيل العلم بأهليته فيما يسأل عنه لا من العلم بالمسألة المسؤول عنها حاضر عتيد لديه.
فإن أهل الشيء من هو متأهل لذلك الشيء لا من حصل له ذلك الشيء والأصل تنزيل اللفظ على ما هو حقيقة فيه وعلى هذا فتخص الآية بسؤال من ليس من أهل العلم كالعامي لمن هو أهل له.

وما نحن فيه فهو من أهل العلم بالتفسير المذكور فلا يكون داخلاً تحت الآية لأن الآية لا دلالة لها على أمر أهل العلم بسؤال أهل العلم فإنه ليس السائل أولى بذلك من المسؤول.
وعن الآية الثانية أن المراد بأولي الأمر الولاة بالنسبة إلى الرعية والمجتهدين بالنسبة إلى العوام بدليل أنه أوجب الطاعة لهم واتباع المجتهد للمجتهد وإن جاز عند الخصوم فغير واجب بالإجماع فلا يكون داخلاً تحت عموم الآية.
وعن السنة ما سبق في مسألة مذهب الصحابي هل هو حجةً أو لا ؟ وعن الإجماع: أما عمر فإنه لم يكن مقداً لعلي ولمعاذ فيما ذهبا إليه بل لأنه اطلع من قوليهما على دليل أوجب رجوعه إليه.
وأما قصة عبد الرحمن بن عوف فقد سبق جوابها في المسائل المتقدمة.
وعن المعقول أنه لو اجتهد وأداه اجتهاده إلى حكم لم يجز له تقليد غيره في خلاف ما أدى إليه اجتهاده إجماعاً فلو جاز له التقليد مع عدم الاجتهاد لكان ذلك بدلا عن اجتهاده والبدل دون المبدل والأصل أن لا يجوز العدول إلى البدل مع إمكان تحصيل المبدل مبالغة في تحصيل الزيادة من مقصوده اللهم إلا أن يرد نص بالتخيير يوجب إلغاء الزيادة من مقصود المبدل أو نص بأنه بدل عند العدم لا عند الوجود كما في بنت مخاض وابن لبون عن خمس وعشرين من الإبل فإن وجود بنت مخاض يمنع من أداء ابن لبون ولا يمتنع ذلك عند عدمها.
والأصل عدم ذلك النص كيف وإن ما ذكروه معارض بقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 وقوله تعالى: " وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله " الشورى 10 وقوله تعالى: " واتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم " الأعراف 3 وقوله تعالى: " ولا تقف ما ليس لك به علم " الإسراء 36 وبقوله عليه السلام: " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له " وتقليد العالم للعالم يلزم منه ترك الاعتبار وترك العمل بحكم الله ورسوله وترك ما أنزل واقتفاء ما ليس له به علم وترك الاجتهاد المأمور به وهو خلاف ظاهر النص وإذا تعارضت الأدلة سلم لنا ما ذكرناه أولاً.
المسألة العاشرة اختلفوا في أنه هل يجوز أن يقال للمجتهد: احكم فإنك لا تحكم إلا بالصواب فأجاز ذلك قوم لكن اختلفوا: فقال موسى بن عمران بجواز ذلك مطلقاً للنبي وغيره من العلماء وقال أبو علي الجبائي بجواز ذلك للنبي خاصةً في أحد قوليه وقد نقل عن الشافعي في كتاب الرسالة ما يدل على التردد بين الجواز والمنع ومنع من ذلك الباقون.
والمختار جوازه دون وقوعه لكن لا بد من الإشارة إلى حجج عول عليها المجوزون بعضها يدل على الجواز وبعضها يدل على الوقوع والتنبيه على ضعفها كالجاري من عادتنا ثم نذكر بعد ذلك ما هو المعتمد في هذه المسألة.
وقد احتجوا بالنص والإجماع والمعقول.
أما النص فمن جهة الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم اسرائيل على نفسه " آل عمران 93 أضاف التحريم إليه فدل على كونه مفوضاً إليه وأما السنة فمن وجوه.
منها ما روي عن النبي عليه السلام أنه لما قال في مكة " لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها " قال له العباس: إلا الإذخر فقال النبي عليه السلام: " إلا الإذخر " ومعلوم أن ذلك لم يكن إلا من تلقاء نفسه لعلمنا بأن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة ولولا أن الحكم مفوض إليه لما ساغ ذلك.
ومنها قوله عليه السلام: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة " .
ومنها قوله عليه السلام: " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق " ومنها ما روي أنه لما قيل: له أحجنا هذا لعامنا أم للأبد ؟فقال: " بل للأبد ولو قلت نعم لوجب " أضاف الوجوب والعفو إلى أمره وفعله ولولا أنه مفوض إلى أختياره لما جاز.
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه أمر منادياً يوم فتح مكة " أن اقتلوا ابن حبابة وابن أبي سرح ولو كانا متعلقين بأستار الكعبة " ثم عفا عن ابن أبي سرح بشفاعة عثمان ولو كان قد أمر بقتله بوحي لما خالفه بشفاعة عثمان.
ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قتل النضر بن الحارث جاءته بنت النضر فأنشدته.
ما كان ضرك لو مننت وربما ... من الفتى وهو المغيظ المحنق
فقال عليه السلام: " أما إني لو كنت سمعت شعرها ما قتلته " ولو كان قتله بأمر من الله لما خالفه وإن سمع شعرها.

ومنها ما روي عنه عليه السلام أنه لما قيل له إن ماعزاً رجم فقال: " لو كنتم تركتموه حتى أنظر في أمره " وذلك يدل على أن حكم الرجم كان مفوضاً إلى رأيه ومنها قوله عليه السلام: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها وعن لحوم الأضاحي ألا فانتفعوا بها " وذلك يدل على تفويض الحل والحرمة في ذلك إليه.
وأما الإجماع فما نقل عن آحاد الصحابة فيما حكم به إن كان صواباً فمن الله ورسوله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان أضاف الحكم إلى نفسه ولم ينكر عليه منكر فصار ذلك إجماعاً ومن ذلك ما شاع وذاع من رجوع آحاد الصحابة عما حكم به أولا من غير نكير عليه ولو لم يكن ذلك من تلقاء نفسه بل عن دليل من الشارع لما شاع ذلك منه ولما جاز تطابق الصحابة على عدم الإنكار عليه وأما المعقول فمن وجوه الأول: أنه إذا جاز تفويض الشارع إلى المكلف اختيار واحدة من خصال الكفارة جاز مثله في الأحكام.
الثاني: أنه إذا جاز أن يفوض إلى العامي العمل بما شاء من فتوى أي المجتهدين شاء من غير دليل جاز مثله في الأحكام الشرعية بالنسبة إلى المجتهدين.
الثالث: أنه إذا جاز الحكم بالأمارة الظنية مع جواز الخطإ فيها عن الصواب جاز الحكم بما يختاره المجتهد من غير دليل وإن جاز عدو له عن جهة الصواب.
ولقائل أن يجيب عن الآية: بأن إسرائيل لم يكن من جملة بنيه حتى يكون داخلاً في عموم الآية وعند ذلك فيحتمل أن إسرائيل حرم ما حرم على نفسه بالاجتهاد مستنداً إلى دليل ظني لا أنه عن غير دليل.
وعن الخبر الأول: أنه قد قيل إن الإذخر ليس من الخلا فلا يكون داخلاً فيما حرم وعلى هذا فإباحته تكون بناء على استصحاب الحال والاستثناء من العباس والنبي عليه السلام كان تأكيداً وبتقدير أن يكون مستثنىً حقيقةً مما حرم بطريق التأسيس لكن من المحتمل أن يكون ذلك بوحي سابق وهو الأولى لقوله تعالى في حق رسوله: " وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى " النجم 3 أما أن يكون ذلك من تلقاء نفسه من غير دليل فلا.
وعن الخبر الثاني: أنه من الجائز أن الوحي نزل بتخييره في أمرهم بالسواك الشاق عند كل صلاة وعدم أمرهم بذلك لا أن أمره لهم بالسواك يكون من تلقاء نفسه ويجب اعتقاد ذلك لما سبق في الآية.
وعن الخبر الثالث: أنه إنما أضاف العفو إلى نفسه بمعنى أنه لم يأخذ صدقة الخيل والرقيق منهم لا بمعنى أنه المسقط لها ودليله ما سبق في الآية.
وعن الخبر الرابع: أن قوله ولو قلت نعم لوجب لا يدل على أن الوجوب مستند إلى قوله: نعم من تلقاء نفسه بل لأنه لا يقول ما يقول إلا بوحي لما سبق في الآية.
وعن الخامس: أنه يجوز أن يكون قد أبيح القتل وتركه بالوحي بدليل ما سبق في الآية وهو الجواب عن قصة النضر بن الحارث وماعز.
وعن الخبر الأخير أنه إنما نهى وأباح بعد النهي بطريق الوحي لا أن ذلك من تلقاء نفسه.
وعن الإجماع أما إضافة الخطإ الى أنفسهم فلا يدل على أن من حكم منهم أنه حكم من غير دليل بل يمكن أن يكون حكمه بناء على ما ظنه دليلاً وهو مخطىء فيه ولو كان ذلك عن اختيار قد أبيح لهم العمل به لما شكوا في كونه صواباً.
وأما رجوع آحاد الصحابة عما حكم به إلى غيره فإنما كان ذلك لظهور الخطإ له فيما ظنه دليلاً على الحكم أولا وقد سوغ له الحكم به أما أن يكون ذلك من غير دليل فلا.
وعن الوجه الأول: من المعقول أنه لا يلزم من التخيير في خصال الكفارة من غير اجتهاد جواز ذلك في الأحكام الشرعية بدليل أن العامي له أن يتخير في خصال الكفارة ومن قال بجواز التخيير في الأحكام الشرعية لم يقض بجوازه لغير المجتهد ولو وقع التساوي بين الصورتين لجاز ذلك للعامي وهو ممتنع بالإجماع.
وبمثله يخرج الجواب عن الوجه الثاني.
وعن الوجه الثالث: أنه لا يلزم من جواز العمل بالأمارة مع كونها مفيدة للظن العمل بالاختيار من غير ظن مفيد للحكم.
والمعتمد في المسألة أن يقال: لو امتنع ذلك إما أن يمتنع لذاته أو لمانع من خارج الأول محال فأنا إذا قدرناه لم يلزم عنه لذاته محال في العقل وإن كان لمانع من خارج فالأصل عدمه وعلى من يدعيه بيانه.

فإن قيل: يمتنع ذلك لأن الباري تعالى إنما شرع الشرائع لمصالح العباد فلو فوض ذلك إلى اختيار العبد فاختيار العبد متردد بين أن يكون مصلحةً وبين أن يكون مفسدة فلا نأمن من اختياره للمفسدة وذلك خلاف ما وضعت له الشريعة.
والجواب عن هذا الإشكال أنه مبني على رعاية المصلحة في أفعال الله تعالى وقد أبطلناه في موضعه وإن سلمنا اعتبار ذلك في أفعاله تعالى ولكن قد أمنا في ذلك من اختيار المفسدة لقول الله اختر فإنك لا تختار إلا الصواب.
فإن قيل: يمتنع على الشارع قول ذلك لاستحالة استمرار المكلف على اختيار الصلاح دون الفساد كما لا يجوز اتفاق الأفعال الكثيرة المحكمة من غير علم ثم لو جاز ذلك في حق المجتهد لجاز مثله في حق العامي وليس كذلك.
قلنا: دليل جواز ذلك من الشارع أنا لو قدرنا وروده منه لم يلزم عنه لذاته محال.
قولهم: إنه لا يتفق اختيار الصلاح في الأفعال الكثيرة قلنا: متى إذا أخبر الصادق بذلك أو إذا لم يخبر؟ الأول ممنوع.
والثاني مسلم.وعلى هذا فلو قال للعامي مثل ذلك كان جائزاً عقلاً.
ثم وإن سلمنا أنه لا يتفق اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة لكن متى إذا كانت المصلحة خارجة عن الفعل المختار أو إذا كانت المصلحة هي نفس الفعل المختار الأول مسلم والثاني ممنوع.
فإن قيل: فيلزم من ذلك الإباحة وإسقاط التكليف قلنا: ليس كذلك بل هو إيجاب التخيير وإيجاب التخيير تكليف لا أنه إباحة وإسقاط للتكليف.
فإن قيل: إنما يحسن إيجاب ما يمكن الخلو منه ويمتنع الخلو من الفعل والترك فلا يحسن إيجابه قلنا هذا وإن استمر في إيجاب الفعل وتركه فلا يستمر في التخيير بين الأحكام التي يتصور الخلو منها كالتخيير بين أن يكون الفعل محرماً أو واجباً.
وذلك بأن يقال له: اختر إما التحريم وإما الوجوب وأيهما اخترت فلا تختر إلا ما المصلحة فيه ولا يخفى جواز الخلو منهما بالإباحة.
وإن سلمنا أن المصلحة خارجة عن نفس الفعل المختار وأنه يمتنع اختيار المصلحة في الأفعال الكثيرة ولكن ما المانع من ذلك في الأفعال القليلة.
فإن قيل: إنه إما أن يكون قد أوجب عليه اختيار ما المصلحة فيه أو خيره بين المصلحة والمفسدة فإن كان الأول فقد كلفه ما لا يطاق حيث أوجب عليه اختيار المصلحة من غير دليل وإن كان الثاني فهو محال على الشارع لما فيه من الإذن منه في فعل المفسدة وهو خارج عن العدل.
قلنا: إن أوجب عليه اختيار المصلحة وإن كان تكليفا بما لا يطاق فهو جائز على ما سبق تقريره.
وإن خيره بين أمرين فلا يمتنع ذلك كما أنه يوجب عليه الحكم بما أوجبه ظنه من الأمارة الظنية وإن كان مخطئاً مرتكباً للمفسدة كما تقرر قبل.
وإذا جاز إيجاب فعل ما هو مفسدة مع عدم علم المكلف به جاز التخيير بين المصلحة والمفسدة مع عدم علم المكلف بذلك.
المسألة الحادية عشرة القائلون بجواز الاجتهاد للنبي عليه السلام اختلفوا في جواز الخطإ عليه في اجتهاده فذهب بعض أصحابنا إلى المنع من ذلك.وذهب أكثر أصحابنا والحنابلة وأصحاب الحديث والجبائي وجماعة من المعتزلة إلى جوازه لكن بشرط أن لا يقر عليه وهو المختار ودليله المنقول والمعقول.
أما المنقول فمن جهة الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " التوبة 43 وذلك يدل على خطئه في إذنه لهم.
وقوله تعالى في المفاداة في يوم بدر: " ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض " الأنفال67 إلى قوله تعالى: " لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم " الأنفال 68 حتى قال النبي عليه السلام: " لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر " لأنه كان قد أشار بقتلهم ونهى عن المفاداة وذلك دليل على خطئه في المفاداة.
وقوله تعالى: " إنما أنا بشر مثلكم " فصلت 6 أثبت المماثلة بينه وبين غيره.
وقد جاز الخطأ على غيره فكان جائزاً عليه لأن ما جاز على أحد المثلين يكون جائزاً على الآخر.
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه قال: " إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار " وذلك يدل على أنه قد يقضي بما لا يكون حقا في نفس الأمر.

وأيضاً ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني " .
وأيضاً ما اشتهر عنه عليه السلام من نسيانه في الصلاة وتحلله عن ركعتين في الرباعية في قصة ذي اليدين وقول ذي اليدين أقصرت الصلاة أم سهوت؟ فقال النبي عليه السلام: " أحق ما يقول ذو اليدين؟ فقالوا: نعم.
وأما المعقول فإنه لو امتنع وقوع الخطإ منه في اجتهاده فإما أن يكون ذلك لذاته أو لأمر من خارج لا جائز أن يقال بالأول فإنا لو فرضناه لم يلزم عنه المحال لذاته عقلاً وإن كان لأمر خارج فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من ثلاثة أوجه : الأول: أنا قد أمرنا باتباع حكمه على ما قال تعالى: " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " النساء 65 فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لكنا قد أمرنا باتباع الخطإ والشارع لا يأمر بالخطإ.
الثاني: أن الأمة إذا أجمعت على حكم مجتهد فيه كان إجماعهم معصوماً عن الخطإ كما سبق بيانه.
ولو جاز على النبي الخطأ في اجتهاده لكانت الأمة أعلى رتبة منه وذلك محال.
الثالث: أن المقصود من البعثة وإظهار المعجزة اتباع النبي عليه السلام في الأحكام الشرعية إقامة لمصالح الخلق فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لأوجب ذلك التردد في قوله والشك في حكمه وذلك مما يخل بمقصود البعثة وهو محال.
والجواب عن الإشكال الأول: أنه يلزم على ما ذكروه أمر الشارع للعامي باتباع قول المفتي مع جواز خطئه فما هو جواب لهم في صورة الإلزام فهو جواب لنا في محل النزاع.
وعن الإشكال الثاني: أن من الناس من منع من تصور انعقاد الإجماع عن الاجتهاد فضلاً عن وقوعه وامتناع الخطأ فيه.
ومنهم من جوزه وجوز مع ذلك مخالفته لإمكان الخطإ فيه كما سبق ذكره في مسائل الإجماع وبتقدير التسليم لانعقاد الإجماع عن الاجتهاد وامتناع الخطإ فيه فلا مانع منه ولا يلزم من ذلك علو رتبة الأمة على رتبة النبي عليه السلام مع اختصاصه بالرسالة وكون عصمة الإجماع مستفادةً من قوله وأنه الشارع المتبع وأهل الإجماع متبعون له ومأمورون بأوامره ومنهيون بنواهيه.ولا كذلك بالعكس.
وعن الثالث: أن المقصود من البعثة إنما هو تبليغه عن الله تعالى أوامره ونواهيه.
والمقصود من إظهار المعجزات إظهار صدقه فيما يدعيه من الرسالة والتبليغ عن الله تعالى وذلك مما لا يتصور خطؤه فيه بالإجماع.
ولا كذلك ما يحكم به عن اجتهاده فإنه لا يقول ما يقوله فيه عن وحي ولا بطريق التبليغ بل حكمه فيه حكم غيره من المجتهدين فتطرق الخطإ إليه في ذلك لا يوجب الإخلال بمعنى البعثة والرسالة.
المسألة الثانية عشرة اختلفوا في النافي هل عليه دليل أو لا ؟ منهم من قال: لا دليل عليه وسواء كان ذلك من القضايا العقلية أو الشرعية.
ومنهم من أوجب ذلك عليه في الموضعين ومنهم من أوجبه عليه في القضايا العقلية دون الشرعية.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن النافي إما أن يكون نافياً بمعنى ادعائه عدم علمه بذلك وظنه أو مدعياً للعمل أو الظن بالنفي فإن كان الأول فالجاهل لا يطالب بالدليل على جهله ولا يلزمه ذلك كما لا يطالب على دعواه أني لست أجد ألما ولا جوعاً ولا حراً ولا برداً إلى غير ذلك.
وإن كان الثاني فلا يخلو إما أن يدعي العلم بنفي ما نفاه ضرورةً أو لا بطريق الضرورة فإن كان الأول فلا دليل عليه أيضاً لأنه إن كان صادقاً في دعوى الضرورة فالضروري لا يطالب بالدليل عليه.
وإن لم يكن صادقاً في دعواه الضرورة فلا يطالب بالدليل عليه أيضاً فإنه ما ادعى حصوله له عن نظر.
ويكفي المنع في انقطاعه حيث إنه لا يقدر على تحقيق الضرورة في ذلك والنظر غير مدعى له وإن ادعى العلم بنفيه لا بطريق الضرورة فلا يخلو إما أن لا يكون قد حصل له بطريق مفض إليه أو يكون بطريق مفض إليه لا جائز أن يقال بالأول لأن حصول علم غير ضروري من غير طريق يفضي إليه محال.

وإن كان الثاني فلا بد عند الدعوى والمطالبة بدليلها من ذكره وكشفه لينظر فيه.وإلا كان قد كتم علماً نافعاً مست الحاجة إلى إظهاره ودخل تحت قوله عليه السلام: " من كتم علماً نافعاً فقد تبوأ مقعده من النار " ولأنه لا فرق في ذلك في دعوى الإثبات والنفي وقد وجب على مدعي الإثبات ذكر الدليل فكذلك في دعوى النفي كيف وإن الإجماع منعقد على أن من ادعى الوحدانية لله تعالى وقدمه أنه يجب عليه إقامة الدليل وإن كان حاصل دعوى الوحدانية نفي الشريك وحاصل دعوى القدم نفي الحدوث والأولية.
ولهذا نبه الله تعالى على نفي آلهة غير الله على الدليل في قوله تعالى: " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " الآية الأنبياء 22.
فإن قيل: فماذا تقولون فيما إذا ادعى رجل أنه نبي ولم تقم على دعواه بينة؟ هل يلزم المكرين لنبوته إقامة الدليل على أنه ليس بنبي أو لا يلزم؟ وكذلك من أنكر وجوب صلاة سادسة أو صوم شوال أو المدعى عليه بحق إذا أنكر ما ادعي عليه به هل يلزمه إقامة الدليل على ما نفاه أو لا إن قلتم بالأول فهو خلاف الإجماع وإن قلتم بالثاني مع كونه نافياً في قضية غير ضرورية فقد سلمتم محل النزاع.
قلنا: النفي في جميع هذه الصور لم يخل عن دليل يدل على النفي غير أنه قد يكتفي بظهوره عن ذكره وهو البقاء على النفي الأصلي واستصحاب الحال مع عدم القاطع له وهو ما يدل على النبوة وما يدل على وجوب صلاة سادسة وعلى وجوب صوم شوال وشغل الذمة.
وإذا قيل إن النافي عليه دليل فالدليل المساعد في ذلك إما نص وارد من الشارع يدل على النفي أو إجماع من الأمة وإما التمسك باستصاحب النفي الأصلي وعدم الدليل المغير القاطع وإما الاستدلال بانتفاء اللازم على انتفاء الملزوم.
وهل يمكن الاستدلال على النفي بالقياس الشرعي؟ اختلفوا فيه بناء على الاختلاف في جواز تخصيص العلة ولا فرق في ذلك بين قياس العلة والدلالة والقياس في معنى الأصل.

الباب الثاني

في التقليد والمفتي والمستفتي

وما فيه الاستفتاء وما يتشعب عن ذلك من المسائل

أما التقليد فعبارة عن العمل بقول الغير من غير حجة ملزمة وهو مأخوذ من تقليده بالقلادة وجعلها في عنقه وذلك كالأخذ بقول العامي وأخذ المجتهد بقول من هو مثله.
وعلى هذا فالرجوع إلى قول النبي عليه السلام وإلى ما أجمع عليه أهل العصر من المجتهدين ورجوع العامي إلى قول المفتي وكذلك عمل القاضي بقول العدول لا يكون تقليدا لعدم عروه عن الحجة الملزمة.
أما في قبول قول الرسول فما دل على وجوب تصديقه من المعجزة ووجوب قبول قول الإجماع قول الرسول ووجوب قبول قول المفتي والشاهدين الإجماع على ذلك وإن سمي ذلك تقليدا بعرف الاستعمال فلا مشاحة في اللفظ.
وأما المفتي فلا بد وأن يكون من أهل الاجتهاد وإنما يكون كذلك بأن يكون عارفاً بالأدلة العقلية كأدلة حدوث العالم وأن له صانعاً وأنه واحد متصف بما يجب له من صفات الكمال والجلال منزه عن صفات النقص والخلل وأنه أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم وأيده بالمعجزات الدالة على صدقه في رسالته وتبليغه للأحكام الشرعية وأن يكون مع ذلك عارفاً بالأدلة السمعية وأنواعها واختلاف مراتبها في جهات دلالاتها والناسخ والمنسوخ منها والمتعارضات وجهات الترجيح فيها وكيفية استثمار الأحكام منها على ما سبق تعريفه وأن يكون عدلاً ثقة حتى يوثق به فيما يخبر عنه من الأحكام الشرعية ويستحب له أن يكون قاصداً للإرشاد وهداية العامة إلى معرفة الأحكام الشرعية لا بجهة الرياء والسمعة متصفا بالسكينة والوقار ليرغب المستمع في قبول ما يقول كافا نفسه عما في أيدي الناس حذراً من التنفير عنه.
وأما المستفتي فلا يخلو إما أن يكون عالماً قد بلغ رتبة الاجتهاد أو لم يكن كذلك فإن كان الأول قد اجتهد في المسألة وأداه اجتهاده إلى حكم من الأحكام فلا خلاف في امتناع اتباعه لغيره في خلاف ما أداه إليه اجتهاده وإن لم يكن قد اجتهد فيها فقد اختلفوا في جواز اتباعه لغيره من المجتهدين فيما أدى إليه اجتهاده وقد سبق الكلام فيه بجهة التفصيل وما هو المختار

وإن لم يكن من أهل الاجتهاد فلا يخلو إما أن يكون عامياً صرفاً لم يحصل له شيء من العلوم التي يترقى بها إلى رتبة الاجتهاد أو أنه قد ترقى عن رتبة العامة بتحصيل بعض العلوم المعتبرة في رتبة الاجتهاد فإن كان الأول فقد اختلف في جواز اتباعه لقول المفتي والصحيح أن وظيفته اتباع قول المفتي على ما يأتي.
وإن كان الثاني فقد تردد أيضاً فيه والصحيح أن حكمه حكم العامي.
وأما ما فيه الاستفتاء فلا يخلو إما أن يكون من القضايا العلمية أو الظنية الاجتهادية فإن كان الأول فقد اختلف أيضاً في جواز اتباع قول الغير فيه والحق امتناعه كما يأتي.
وإن كان الثاني فهو المخصوص بجواز الاستفتاء عنه ووجوب اتباع قول المفتي.
وإذ أتينا على ما حققناه فلنرجع إلى المسائل المتشعبة عنه وهي ثمان.
المسألة الاولى اختلفوا في جواز التقليد في المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد في وجود الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز عليه وما يجب له وما يستحيل عليه فذهب عبيد الله بن الحسن العنبري والحشوية والتعليمية إلى جوازه.وربما قال بعضهم إنه الواجب على المكلف وإن النظر في ذلك والاجتهاد فيه حرام.وذهب الباقون إلى المنع منه وهو المختار لوجوه.
الأول: أن النظر واجب وفي التقليد ترك الواجب فلا يجوز.
ودليل وجوبه أنه لما نزل قوله تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض " آل عمران 190 الآية قال عليه السلام: " ويل لمن لاكها بين لحييه ولم يتفكر فيها " توعد على ترك النظر والتفكر فيها فدل على وجوبه.
الثاني: أن الإجماع من السلف منعقد على وجوب معرفة الله تعالى وما يجوز عليه وما لا يجوز فالتقليد إما أن يقال إنه محصل للمعرفة أو غير محصل لها القول بأنه محصل للمعرفة ممتنع لوجوه الأول أن المفتي بذلك غير معصوم ومن لا يكون معصوماً ولا يكون خبره واجب الصدق وما لا يكون واجب الصدق فخبره لا يفيد العلم.
الثاني أنه لو كان التقليد يفيد العلم لكان العلم حاصلاً لمن قلد في حدوث العالم ولمن قلد في قدمه وهو محال لإفضائه إلى الجمع بين كون العالم حادثاً وقديماً.
الثالث أنه لو كان التقليد مفيداً للعمل فالعلم بذلك إما أن يكون ضرورياً أو نظرياً لا جائز أن يكون ضرورياً وإلا لما خالف فيه أكثر العقلاء ولأنه لو خلاً الإنسان ودواعي نفسه من مبدإ نشئه لم يجد ذلك من نفسه أصلاً والأصل عدم الدليل المفضي إليه فمن ادعاه لا بد له من بيانه الوجه الثالث: من الوجوه الأول أن التقليد مذموم شرعاً فلا يكون جائزاً غير أنا خالفنا ذلك في وجوب اتباع العامي المجتهد وفيما ذكرناه من الصور فيما سبق لقيام الدليل على ذلك والأصل عدم الدليل الموجب للاتباع فيما نحن فيه فنبقي على مقتضي الأصل.
وبيان ذم التقليد قوله تعالى حكاية عن قوم: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " الزخرف 23 ذكر ذلك في معرض الذم لهم.
فإن قيل: ما ذكرتموه معارض من وجوه الأول أن النظر غير واجب لوجوه.
الأول: أنه منهي عنه ودليل النهي عنه الكتاب والسنة : أما الكتاب فقوله تعالى: " وما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا " غافر4 والنظر يفضي إلى فتح باب الجدال فكان منهياً عنه.
وأما السنة فما روي عن النبي عليه السلام أنه نهى الصحابة لما رآهم يتكلمون في مسألة القدر وقال: " إنما هلك من كان قبلكم لخوضهم في هذا " وقال عليه السلام: " عليكم بدين العجائز " وهو ترك النظر ولو كان النظر واجباً لما كان منهياً عنه.
الثاني: أنه لم ينقل عن أحد من الصحابة الخوض والنظر في المسائل الكلامية مطلقاً ولو وجد ذلك منهم لنقل كما نقل عنهم النظر في المسائل الفقهية ولو كان النظر في ذلك واجباً لكانوا أولى بالمحافظة عليه.
الثالث: أنه لم ينقل عن النبي عليه السلام ولا عن أحد من الصحابة والتابعين إلى زمننا هذا الإنكار على من كان في زمانهم من العوام ومن ليس له أهلية النظر على ترك النظر مع أنهم أكثر الخلق بل كانوا حاكمين بإسلامهم مقرين لهم على ما هم عليه.

الرابع: لو كان النظر في معرفة الله تعالى واجباً فإما أن يجب على العارف أو على غير العارف الأول محال لما فيه من تحصيل الحاصل والثاني يلزم منه أن يكون الجهل بالله تعالى واجباً ضرورة توقف النظر الواجب عليه وأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ولأنه يلزم منه توقف معرفة إيجاب الله تعالى على معرفة ذاته ومعرفة ذاته على النظر المتوقف على إيجابه وهو دور.
المعارضة الثانية: أن النظر مظنة الوقوع في الشبهات واضطراب الآراء والخروج إلى الضلال بخلاف التقليد فكان سلوك ما هو أقرب إلى السلامة أولى.ولهذا صادفنا أكثر الخلق على ذلك فكان أولى بالاتباع.
الثالثة: أن أدلة الأصول فيما يرجع إلى الغموض والخفاء أشد من أدلة الفروع فإذا جاز التقليد في الفروع مع سهولة أدلتها دفعاً للحرج فلأن يجوز ذلك في الأصول أولى.
الرابعة: أن الأصول والفروع قد استويا في التكليف بهما وقد جاز التقليد في الفروع فكذلك في الأصول.
والجواب عن المعارضة الأولى بمنع النهي عن النظر وأما الآية فالمراد بهما إنما هو الجدال بالباطل على ما قال تعالى: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق " غافر 5 دون الجدال بالحق ودليله قوله تعالى: " وجادلهم بالتي هي أحسن " النحل 125 وقوله تعالى: " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " العنكبوت 46 ولو كان الجدال بالحق منهياً عنه لما كان مأموراً به ثم كيف يكون النظر منهياً عنه وقد أثنى الله تعالى على الناظرين بقوله تعالى: " ويتفكرون في خلق السموات والأرض " آل عمران 191 أورد ذلك في معرض الثناء والمدح والمنهي عنه لا يكون ممدوحاً عليه.
وبه يخرج الجواب عن نهيه عن النظر في القدر.وقوله عليه السلام: " عليكم بدين العجائز " لم يثبت ولم يصح.
وإن صح فيجب حمله على التفويض إلى الله تعالى فيما قضاه وأمضاه جمعا بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة.
قولهم: لم ينقل عن أحد من الصحابة النظر في ذلك يلزم منه نسبة الصحابة إلى الجهل بمعرفة الله تعالى مع كون الواحد منا عالماً بذلك وهو محال.
وإذا كانوا عالمين بذلك فليس العلم بذلك من الضروريات فتعين إسناده إلى النظر والدليل وإنما لم تنقل عنهم المناظرة في ذلك لصفاء أذهانهم وصحة عقائدهم وعدم من يحوجهم إلى ذلك وحيث نقل عنهم ذلك في مسائل الفروع فلكونها اجتهادية والظنون فيها متفاوتة بخلاف المسائل القطعية.
قولهم: إن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لم ينكروا على العامة ترك النظر قلنا: إنما لم ينكروا ذلك لأن المعرفة الواجبة كانت حاصلةً لهم وهي المعرفة بالدليل من جهة الجملة لا من جهة التفصيل.
قولهم: إن وجوب النظر يلزم منه وجوب الجهل بالله تعالى إنما يلزم ذلك أن لو كان الجهل مقدورا للعبد وهو غير مسلم.
قولهم: يلزم منه الدور لا نسلم ذلك فإن الواجب الشرعي عندنا غير متوقف على النظر كما سبق في مسألة شكر المنعم.
قولهم: إن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتردي في الضلالات قلنا فاعتقاد من يقلده إما أن يكون عن تقليد أو نظر ضرورة امتناع كونه ضرورياً فإن كان الأول فالكلام فيمن قلده كالكلام فيه وهو تسلسل ممتنع وإن كان الثاني فالمحذور اللازم من النظر لازم في التقليد مع زيادة وهو احتمال كذب من قلده فيما أخبره به بخلاف الناظر مع نفسه فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره.
قولهم إن التقليد عليه الأكثر والسواد الأعظم.قلنا: ذلك لا يدل على أنه أقرب إلى السلامة لأن التقليد في العقائد المضلة أكثر من الصحيحة على ما قال تعالى: " وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " الأنعام 116 وقال تعالى: " وقليل ما هم ص 24 وقال عليه السلام: " تفترق أمتي ثلاثاً وسبعين فرقةً واحدة ناجية والباقي في النار " وإنما كان ذلك لأن أدلة الحق دقيقة غامضة لا يطلع عليها سوى أصحاب الأذهان الصافية والعقول الراجحة مع المبالغة في الجد والاجتهاد وذلك مما يندر ويقل وقوعه.
قولهم: إن أدلة الأصول أخفى فكان التقليد فيها أولى من الفروع ليس كذلك فإن المطلوب في الأصول القطع واليقين بخلاف الفروع فإن المطلوب فيها الظن وهو حاصل من التقليد فلا يلزم من جواز التقليد في الفروع جوازه في الأصول.
وبه يكون الجواب عن المعارضة الأخيرة أيضاً.
المسألة الثانية

العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين العامي ومن ليس له أهلية الاجتهاد وان كان محصلاً لبعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد يلزمه اتباع قول المجتهدين والأخذ بفتواه عند المحققين من الأصوليين.
ومنع من ذلك بعض معتزلة البغداديين وقالوا لا يجوز ذلك الا بعد أن يتبين له صحة اجتهاده بدليله.
ونقل عن الجبائي أنه أباح ذلك في مسائل الاجتهاد دون غيرها كالعبادات الخمس.
والمختار إنما هو المذهب الأول.ويدل عليه النص والإجماع والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " النحل 43 وهو عام لكل المخاطبين ويجب أن يكون عاماً في السؤال عن كل ما لا يعلم بحيث يدخل فيه محل النزاع وإلا كان متناولاً لبعض ما لا يعلم بعينه أو لا بعينه والأول غير مأخوذ من دلالة اللفظ والثاني يلزم منه تخصيص ما فهم من معنى الأمر بالسؤال وهو طلب الفائدة ببعض الصور دون البعض وهو خلاف الأصل.
وإذا كان عاماً في الأشخاص وفي كل ما ليس بمعلوم فأدنى درجات قوله فاسألوا الجواز وهو خلاف مذهب الخصوم.
وأما الإجماع فهو أنه لم تزل العامة في زمن الصحابة والتابعين قبل حدوث المخالفين يستفتون المجتهدين ويتبعونهم في الأحكام الشرعية والعلماء منهم يبادرون إلى إجابة سؤالهم من غير إشارة إلى ذكر الدليل ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقاً.
وأما المعقول فهو أن من ليس له أهلية الاجتهاد إذا حدثت به حادثة فرعية إما أن لا يكون متعبدا بشيء وهو خلاف الإجماع من الفريقين وإن كان متعبدا بشيء فإما بالنظر في الدليل المثبت للحكم أو بالتقليد الأول ممتنع لأن ذلك مما يفضي في حقه وفي حق الخلق أجمع إلى النظر في أدلة الحوادث والاشتغال عن المعايش وتعطيل الصنائع والحرف وخراب الدنيا وتعطيل الحرث والنسل ورفع الاجتهاد والتقليد رأسا وهو من الحرج والإضرار المنفي بقوله تعالى: " وما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وبقوله عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " وهو عام في كل حرج وضرار ضرورة كونه نكرة في سياق النفي.
غير أنا خالفناه في امتناع التقليد في أصول الدين لما بيناه من الفرق في مسألة امتناع التقليد في أصول الدين ولأن الوقائع الحادثة الفقهية أكثر بأضعاف كثيرة من المسائل الأصولية التي قيل فيها بامتناع التقليد فكان الحرج في إيجاب الاجتهاد فيها أكثر فبقينا فيما عدا ذلك عاملين بقضية الدليل وهو عام في المسائل الاجتهادية وغيرها.
فإن قيل ما ذكرتموه معارض بالكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: " وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون " البقرة 169 والقول بالتقليد قول بما ليس بمعلوم فكان منهياً عنه وأيضاً.
قوله تعالى حكاية عن قوم: " إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون " الزخرف 23 ذكر ذلك في معرض الذم للتقليد والمذموم لا يكون جائزاً.
وأما السنة فقوله عليه السلام: " طلب العلم فريضة على كل مسلم " وقوله عليه السلام: " اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له " والنصان عامان في الأشخاص وفي كل علم وهما يدلان على وجوب النظر.
وأما المعقول فمن وجهين الأول أن العامي لو كان مأموراً بالتقليد فلا يأمن أن يكون من قلده مخطئاً في اجتهاده وأنه كاذب فيما أخبره به فيكون العامي مأموراً باتباع الخطإ والكذب وذلك على الشارع ممتنع.
الثاني: أن الفروع والأصول مشتركة في التكليف بها فلو جاز التقليد في الفروع لمن ظهر صدقه فيما أخبر به لجاز ذلك في الأصول.
والجواب عن الآية الأولى: أنها مشتركة الدلالة فإن النظر أيضاً والاجتهاد في المسائل الاجتهادية قول بما ليس بمعلوم ولا بد من سلوك أحد الأمرين.
وليس في الآية دليل على تعيين امتناع أحدهما كيف ويجب حملها على ما لا يعلم فيما يشترط فيه العلم تقليلا لتخصيص العموم ولما فيه من موافقة ما ذكرناه من الأدلة.
وعن الآية الثانية: بوجوب حملها على ذم التقليد فيما يطلب فيه العلم جمعا بينها وبين ما ذكرناه من الأدلة.
وعن الخبر الأول: أنه متروك بالإجماع في محل النزاع فإن القائل فيه قائلان قائل بأن الواجب التقليد وقائل إن الواجب إنما هو النظر والعلم غير مطلوب فيهما إجماعاً.

وعن الثاني: لا نسلم دلالته على الوجوب على ما سبق تعريفه وإن دل على وجوب الاجتهاد لكنه لا عموم له بالنسبة إلى كل مطلوب حتى يدخل فيه محل النزاع وإن كان عاما بلفظه لكن يجب حمله على من له أهلية الاجتهاد جمعاً بينه وبين ما ذكرناه من الأدلة.
وعن الوجه الأول: من المعقول أنه وإن اجتهد العامي فلا نأمن من وقوع الخطإ منه بل هو أقرب إلى الخطإ لعدم أهليته والمحذور يكون مشتركاً وعن الوجه الثاني: ما سبق من الفرق.
المسألة الثالثة القائلون بوجوب الاستفتاء على العامي اتفقوا على جواز استفتائه لمن عرفه بالعلم وأهلية الاجتهاد والعدالة بأن يراه منتصباً للفتوى والناس متفقون على سؤاله والاعتقاد فيه وعلى امتناعه فيمن عرفه بالضد من ذلك.
واختلفوا في جواز استفتاء من لم يعرفه بعلم ولا جهالة.
والحق امتناعه على مذهب الجمهور وذلك لأنه لا نأمن أن يكون حال المسؤول كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول.
ولا يخفى أن احتمال العامية قائم بل هو أرجح من احتمال صفة العلم والاجتهاد نظراً إلى أن الأصل عدم ذلك وإلى أن الغالب إنما هو العوام وأن اندراج من جهلنا حالة تحت الأغلب أغلب على الظن.
ولهذا امتنع قبول قول مدعي الرسالة وقبول قول الراوي والشاهد إذا لم يقم دليل على صدقه.
فإن قيل: إذا لم يعرف العامي السائل عدالة المفتي فلا يخلو إما أن يقال إنه يجب عليه البحث عن عدالته أو لا يجب فإن قيل بالأول فهو خلاف ما الناس عليه في العادة من غير نكير وإن قيل بالثاني فلا يخفى أن احتمال عدم العدالة مقاوم لاحتمال العدالة وعند ذلك فاحتمال صدقه فيما يخبر به مقاوم لاحتمال كذبه.
وعند ذلك إما أن يلزم من جواز الاستفتاء مع الجهل بالعدالة جوازه مع الجهل بالعلم أو لا يلزم فإن لم يلزم فما الفرق وإن لزم فهو المطلوب.
قلنا: لا نسلم جريان العادة بما ذكروه عند إرادة الاستفتاء وعلى هذا فلا بد من السؤال عن العدالة بما يغلب على الظن من قول عدل أو عدلين.
وإن سلمنا أنه لا يحتاج إلى البحث عن ذلك فالفرق ظاهر وذلك لأن الغالب من حال المسلم ولا سيما المشهور بالعلم والاجتهاد إنما هو العدالة وهو كاف في إفادة الظن ولا كذلك في العلم لأنه ليس الأصل في كل إنسان أن يكون عالما مجتهدا ولا الغالب ذلك.
المسألة الرابعة إذا استفتى العامي عالما في مسألة فأفتاه ثم حدث مثل تلك الواقعة فهل يجب على المفتي أن يجتهد لها ثانياً ولا يعتمد على الاجتهاد الأول ؟ اختلفوا فيه فمنهم من قال لا بد من الاجتهاد ثانياً لاحتمال أن يتغير اجتهاده ويطلع على ما لم يكن اطلع عليه أولا.
ومنهم من قال لا حاجة إلى اجتهاد آخر لأن الأصل عدم اطلاعه على ما لم يطلع عليه أولا.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أنه إما أن يكون ذاكرا للاجتهاد الأول أو غير ذاكر له فإن كان الأول فلا حاجة إلى اجتهاد آخر كما لو اجتهد في الحال.
وإن كان الثاني فلا بد من الاجتهاد لأنه في حكم من لم يجتهد.
المسألة الخامسة اختلفوا في أنه هل يجوز خلو عصر من الأعصار عن مجتهد يمكن تفويض الفتاوى إليه ؟ فمنع منه قوم كالحنابلة وغيرهم وجوزه آخرون وهو المختار وذلك لأنه لو امتنع لامتنع إما لذاته أو لأمر من خارج الأول محال فإنا لو فرضنا وقوعه لم يلزم عنه لذاته محال عقلا وإن كان الثاني فالأصل عدمه وعلى مدعيه بيانه.
فإن قيل: دليل امتناعه النص والمعقول.
أما النص فقوله عليه السلام: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتي أمر الله وحتى يظهر الدجال " وأيضا ما روي عنه عليه السلام أنه قال: " واشوقاه إلى إخواني! قالوا: يا رسول الله ألسنا إخوانك؟ فقال: أنتم أصحابي إخواني قوم يأتون بعدي يهربون بدينهم من شاهق إلى شاهق ويصلحون إذا فسد الناس " وأيضا قوله عليه السلام: " العلماء ورثة الأنبياء " وأحق الأمم بالوراثة هذه الأمة وأحق الأنبياء بإرث العلم عنه نبي هذه الأمة.
وأما المعقول فمن وجهين : الأول أن التفقه في الدين والاجتهاد فيه فرض على الكفاية بحيث إذا اتفق الكل على تركه أثموا.فلو جاز خلو العصر عمن يقوم به لزم منه اتفاق أهل العصر على الخطإ والضلالة وهو ممتنع لما سبق.

الثاني أن طريق معرفة الأحكام الشرعية إنما هو الاجتهاد فلو خلا العصر عن مجتهد يمكن الاستناد إليه في معرفة الأحكام أفضى إلى تعطيل الشريعة واندراس الأحكام وذلك ممتنع لأنه على خلاف عموم ما سبق من النصوص.
والجواب عما ذكروه من النصوص أنها معارضة بما يدل على نقيضها فمن ذلك قوله عليه السلام " : بدىء الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ " وقوله عليه السلام: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ولكن بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا " وقوله عليه السلام: " تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإنها أول ما ينسى " وقوله عليه السلام: " لتركبن سنن من كان قبلكم حذوا القذة بالقذة " وقوله صلى الله عليه وسلم: " خير القرون القرن الذي أنا " فيه ثم الذي يليه ثم الذي يليه ثم تبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم وإذا تعارضت النصوص سلم لنا ما ذكرناه من الدليل أولاً.
وما ذكروه من الوجه الأول من المعقول فجوابه أن يقال متى يكون التفقه في الدين والتأهل للاجتهاد فرضاً على الكفاية في كل عصر إذا أمكن اعتماد العوام على الأحكام المنقولة إليهم في كل عصر عمن سبق من المجتهدين في العصر الأول بالنقل المغلب على الظن أو إذا لم يمكن الأول ممنوع والثاني مسلم ولكن لا نسلم امتناع ذلك.
وهذا هو الجواب عن الوجه الثاني من المعقول أيضاً.
المسألة السادسة من ليس بمجتهد هل تجوز له الفتوى بمذهب غيره من المجتهدين كما هو المعتاد في زمننا هذا ؟ اختلفوا فيه فذهب أبو الحسين البصري وجماعة من الأصوليين إلى المنع من ذلك لأنه إنما يسأل عما عنده لا عما عند غيره ولأنه لو جازت الفتوى بطريق الحكاية عن مذهب الغير لجاز ذلك للعامي وهو محال مخالف للإجماع.ومنهم من جوزه إذا ثبت ذلك عنده بنقل من يوثق بقوله.
والمختار أنه إذا كان مجتهدا في المذهب بحيث يكون مطلعا على مأخذ المجتهد المطلق الذي يقلده وهو قادر على التفريع على قواعد إمامه وأقواله متمكن من الفرق والجمع والنظر والمناظرة في ذلك كان له الفتوى.
تمييزاً له عن العامي ودليله انقطاع الإجماع من أهل كل عصر على قبول مثل هذا النوع من الفتوى وإن لم يكن كذلك فلا.
المسألة السابعة إذا حدثت للعامي حادثة وأراد الاستفتاء عن حكمها فإما أن يكون في البلد مفت واحد أو أكثر فإن كان الأول وجب عليه الرجوع إليه والأخذ بقوله وإن كان الثاني فقد اختلف الأصوليون فمنهم من قال لا يتخير بينهم حتى يأخذ بقول من شاء منهم بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم وهو مذهب أحمد بن حنبل وابن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة من الفقهاء والأصوليين مصيراً منهم إلى أن قول المفتيين في حق العامي ينزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد وكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فيجب على العامي الترجيح بين المفتيين إما بأن يتحفظ من كل باب من الفقه مسائل ويتعرف أجوبتها ويسأل عنها فمن أجابه أو كان أكثر إصابة اتبعه أو بأن يظهر له ذلك بالشهرة والتسامع ولأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى فكان المصير إليه أولى.
وذهب القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء وسواء تساووا أو تفاضلوا وهو المختار.
ويدل على ذلك أن الصحابة كان فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين فإن الخلفاء الأربعة كانوا أعرف بطريق الاجتهاد من غيرهم ولهذا قال عليه السلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " وقال عليه السلام: " أقضاكم علي وأفرضكم زيد وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل " وكان فيهم العوام ومن فرضه الاتباع للمجتهدين والأخذ بقولهم لا غير.
ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين ولا أنكر أحد منهم اتباع المفضول والاستفتاء له مع وجود الأفضل ولو كان ذلك غير جائز لما جاز من الصحابة التطابق على عدم إنكاره والمنع منه ويتأيد ذلك بقوله عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ولولا إجماع الصحابة على ذلك لكان القول بمذهب الخصوم أولى.
المسألة الثامنة

إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة فليس له الرجوع عنه إذا اتبع العامي بعض المجتهدين في حكم حادثة من الحوادث وعمل بقوله فيها اتفقوا على أنه ليس له الرجوع عنه في ذلك الحكم بعد ذلك إلى غيره.
وهل له اتباع غير ذلك المجتهد في حكم آخر ؟ اختلفوا فيه: فمنهم من منع منه ومنهم من أجازه وهو الحق نظراً إلى ما وقع عليه إجماع الصحابة من تسويغ استفتاء العامي لكل عالم في مسألة وأنه لم ينقل عن أحد من السلف الحجر على العامة في ذلك ولو كان ذلك ممتنعاً لما جاز من الصحابة إهماله والسكوت عن الإنكار عليه ولأن كل مسألة لها حكم نفسها فكما لم يتعين الأول للاتباع في المسألة الأولى إلا بعد سؤاله فكذلك في المسألة الأخرى.
وأما إذا عين العامي مذهباً معيناً كمذهب الشافعي أو أبي حنيفة أو غيره وقال أنا على مذهبه وملتزم له فهل له الرجوع إلى الأخذ بقول غيره في مسألة من المسائل ؟ اختلفوا فيه: فجوزه قوم نظراً إلى أن التزامه لمذهب معين غير ملزم له ومنع من ذلك آخرون لأنه بالتزامه المذهب صار لازما له كما لو التزم مذهبه في حكم حادثة معينة.
والمختار إنما هو التفصيل وهو أن كل مسألة من مذهب الأول اتصل عمله بها فليس له تقليد الغير فيها وما لم يتصل عمله بها فلا مانع من اتباع غيره فيها.

القاعدة الرابعة

في الترجيحات

وتشتمل على مقدمة وبابين.

أما المقدمة ففي

بيان معنى الترجيح

ووجوب العمل بالراجح وما فيه الترجيح.

أما الترجيح فعبارة عن اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر.
فقولنا: اقتران أحد الصالحين احتراز عما ليسا بصالحين للدلالة أو أحدهما صالح والآخر ليس بصالح فإن الترجيح إنما يكون مع تحقق التعارض ولا تعارض مع عدم الصلاحية للأمرين أو أحدهما.
وقولنا: مع تعارضهما احتراز عن الصالحين اللذين لا تعارض بينهما فإن الترجيح إنما يطلب عند التعارض لا مع عدمه وهو عام للمتعارضين مع التوافق في الاقتضاء كالعلل المتعارضة في أصل القياس كما يأتي وللمتعارضين مع التنافي في الاقتضاء كالأدلة المتعارضة في الصور المختلف فيها نفياً وإثباتاً.
وقولنا: بما يوجب العمل بأحدهما وإهمال الآخر احتراز عما اختص به أحد الدليلين عن الآخر من الصفات الذاتية أو العرضية ولا مدخل له في التقوية والترجيح.
وأما أن العمل بالدليل الراحح واجب فيدل عليه ما نقل وعلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختفلة على وجوب تقديم الراجح من الظنين وذلك كتقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر أبي هريرة في قوله: " إنما الماء من الماء " وما روت عن النبي عليه السلام أنه كان يصبح جنباً وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله عليه السلام : " من أصبح جنباً فلا صوم له " لكونها أعرف بحال النبي عليه السلام.
وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها ومن فتش عن أحوالهم ونظر في وقائع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب أنهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما.
ويدل على ذلك أيضا تقرير النبي عليه السلام لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضياً على ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض كما سبق تقريره غير مرة ولأنه إذا كان أحد الدليلين راجحاً فالعقلاء يوجبون بعقولهم العمل بالراحج.
والأصل تنزيل التصرفات الشرعية منزلة التصرفات العرفية.ولهذا قال عليه السلام: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن " فإن قيل: ما ذكرتموه معارض بالنص والمعقول.
أما النص فقوله تعالى: " فاعتبروا يا أولي الأبصار " الحشر 2 أمر بالاعتبار مطلقاً من غير تفصيل.
وأيضا قوله عليه السلام: " نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر " والدليل المرجوح ظاهر فجاز العمل به.
وأما المعقول فهو أن الأمارات الظنية المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة والترجيح غير معتبر في البينات حتى إنه لا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين.
قلنا: أما الآية فغايتها الأمر بالنظر والاعتبار وليس فيها ما ينافي القول بوجوب العمل بالترجيح فإن إيجاب أحد الأمرين لا ينافي إيجاب غيره.

وأما الخبر فيدل على جواز العمل بالظاهر والظاهر هو ما ترجح أحد طرفيه على الآخر ومع وجود الدليل الراجح فالمرجوح المخالف له لا يكون راجحاً من جهة مخالفته للراجح فلا يكون ظاهراً فيه.
وأما المعقول فلا نسلم امتناع الترجيح في باب الشهادة بل عندنا يقدم قول الأربعة على قول الاثنين على رأي لنا.
وإن سلمنا أنه لا اعتبار بالترجيح في باب الشهادة فإنما كان لأن المتبع في ذلك إنما هو إجماع الصحابة.وقد ألف منهم اعتبار ذلك في باب تعارض الأدلة دون باب الشهادة.
وأما ما فيه الترجيح فهي الطرق الموصلة إلى المطلوبات.
وهي تنقسم إلى قطعي وظني.
أما القطعي فلا ترجيح فيه لأن الترجيح لا بد وأن يكون موجباً لتقوية أحد الطريقين المتعارضين على الآخر.
والمعلوم المقطوع به غير قابل للزيادة والنقصان فلا يطلب فيه الترجيح ولأن الترجيح إنما يكون بين متعارضين وذلك غير متصور في القطعي لأنه إما أن يعارضه قطعي أو ظني الأول محال لأنه يلزم منه إما العمل بهما وهو جمع بين النقيضين في الإثبات أو امتناع العمل بهما وهو جمع بين النقيضين في النفي أو العمل بأحدهما دون الآخر ولا أولوية مع التساوي.
والثاني أيضاً محال لامتناع ترجح الظني على القاطع وامتناع طلب الترجيح في القاطع كيف وإن الدليل القاطع لا يكون في مقابلته دليل صحيح فلم يبق سوى الطرق الظنية والطرق الظنية منقسمة إلى شرعية وعقلية وليس من غرضنا بيان العقلية بل الشرعية وهي إما أن تكون موصلة إلى الظن بأمر مفرد وهي الحدود أو الظن بأمر مركب وهي الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس والاستدلال كما سبق تحقيقه.
فلنرسم في ترجيحات كل واجد من الطريقين باباً.

الباب الأول

في ترجيحات الطرق الموصلة

إلى التصديقات الشرعية.

والتعارض إما أن يكون بين منقولين أو معقولين أو منقول ومعقول فلنرسم في كل واحد قسماً.

القسم الأول

في التعارض الواقع بين منقولين

والترجيح بينهما منه ما يعود إلى السند ومنه ما يعود إلى المتن ومنه ما يعود إلى المدلول ومنه ما يعود إلى أمر من خارج.
فأما ما يعود إلى السند فمنه ما يعود إلى الراوي ومنه ما يعود إلى ومنه ما يعود إلى المروي ومنه ما يعود إلى المروي عنه.
فأما ما يعود إلى الراوي فمنه ما يعود إلى نفسه ومنه ما يعود إلى تزكيته.
فأما ما يعود إلى نفس الراوي فترجيحات.
الأول: أن تكون رواة أحدهما أكثر من رواة الآخر فما رواته أكثر يكون مرجحاً خلافا للكرخي لأنه يكون أغلب على الظن من جهة أن احتمال وقوع الغلط والكذب على العدد الأكثر أبعد من احتمال وقوعه في العدد الأقل ولأن خبر كل واحد من الجماعة يفيد الظن.
ولا يخفى أن الظنون المجتمعة كلما كانت أكثر كانت أغلب على الظن حتى ينتهي إلى القطع ولهذا فإنه لما كان الحد الواجب بالزنى من أكبر الحدود وآكدها جعلت الشهادة عليه أكثر عدداً من غيره وأن النبي عليه السلام لم يعمل بقول ذي اليدين " أقصرت الصلاة أم نسيت " حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر ولم يعمل أبو بكر بخبر المغيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم الجدة السدس حتى اعتضد بخبر محمد بن مسلمة ولم يعمل عمر بخبر أبي موسى حتى اعتضد بخبر أبي سعيد الخدري.
الثاني: أن يكون راوي أحد الحديثين مشهوراً بالعدالة والثقة بخلاف الآخر أو أنه أشهر بذلك فروايته مرجحة لأن سكون النفس إليه أشد والظن بقوله أقوى.
الثالث: أن يكون أحد الراويين أعلم وأضبط من الآخر أو أورع وأتقى فروايته أرجح لأنها أغلب على الظن.
الرابع: أن يكون أحد الراويين حالة روايته ذاكرا للرواية عن شيخه غير معتمد في ذلك على نسخة سماعه أو خط نفسه بخلاف الآخر فهو أرجح لأنه يكون أبعد من السهو والغلط.
الخامس: أن يكون أحد الراويين قد عمل بما روى والآخر خالف ما روى فمن لم يخالف روايته أولى لكونه أبعد عن الكذب بل هو أولى من رواية من لم يظهر منه العمل بروايته.
السادس: أن يكونا مرسلين وقد عرف من حال أحد الراويين أنه لا يروي عن غير العدل كابن المسيب ونحوه بخلاف الآخر فرواية الأول تكون أولى

السابع: أن يكون راوي أحد الخبرين مباشراً لما رواه والآخر غير مباشر فرواية المباشر تكون أولى لكونه أعرف بما روى وذلك كرواية أبي رافع أن النبي عليه السلام نكح ميمونة وهو حلال فإنه يرجح على رواية ابن عباس أنه نكحها وهو حرام لأن أبا رافع كان هو السفير بينهما والقابل لنكاحها عن رسول الله.
الثامن: أن يكون أحد الراويين هو صاحب القصة كما روت ميمونة أنها قالت: " تزوجني رسول الله ونحن حلالان " فإنها تقدم على رواية ابن عباس لكونها أعرف بحال العقد من غيرها لشدة اهتمامها خلافا للجرجاني من أصحاب أبي حنيفة.
التاسع: أن يكون أحد الراويين أقرب إلى النبي عليه السلام حال سماعه من الآخر فروايته تكون أولى وذلك كرواية ابن عمر إفراد النبي عليه السلام فإنها مقدمة على من روى أنه قرن لأنه ذكر أنه كان تحت ناقته حين لبى النبي عليه السلام وأنه سمع إحرامه بالإفراد.
العاشر: إذا كان أحد الراويين من كبار الصحابة والآخر من صغارهم فرواية الأكبر أرجح لأن الغالب أنه يكون أقرب إلى النبي عليه السلام حالة السماع لقوله عليه السلام ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ولأن محافظته على منصبه مما يوجب التحرز عن الكذب أكثر من الصغير.
الحادي عشر: إذا كان أحد الراويين متقدم الإسلام على الراوي الآخر فروايته أولى إذ هي أغلب على الظن لزيادة أصالته في الإسلام وتحريره فيه.
الثاني عشر: أن يكون أحد الراويين فقيها والآخر غير فقيه أو هو أفقه وأعلم بالعربية فخبره يكون مرجحاً لكونه أعرف بما يرويه لتمييزه بين ما يجوز وما لا يجوز.
الثالث عشر: أن يكون أحد الراويين أفطن وأذكى وأكثر تيقظاً من الآخر فروايته أولى لكثرة ضبطه.
الرابع عشر: أن يكون أحد الراويين روايته عن حفظ والآخر عن كتاب فالراوي عن الحفظ أولى لكثرة ضبطه.
الخامس عشر: إن كان أحد الراويين مشهور النسب بخلاف الآخر فروايته أولى لأن احترازه عما يوجب نقص منزلته المشهورة يكون أكثر.
السادس عشر: إذا كان في رواة أحد الخبرين من يلتبس اسمه باسم بعض الضعفاء بخلاف الآخر فالذي لا يلتبس اسمه أولى لأنه أغلب على الظن.
السابع عشر: أن يكون أحد الراويين قد تحمل الرواية في زمن الصبي والآخر في زمن بلوغه فرواية البالغ أولى لكثرة ضبطه.
وأما ما يعود إلى التزكية فترجيحات.
الأول: أن يكون المزكي لأحد الراويين أكثر من الآخر أو أن يكون المزكي له أعدل وأوثق فروايته مرجحة لأنها أغلب على الظن.
الثاني: أن تكون تزكية أحدهما بصريح المقال والآخر بالرواية عنه أو بالعمل بروايته أو الحكم بشهادته فرواية من تزكيته بصريح المقال مرجحة على غيرها لأن الرواية قد تكون عمن ليس بعدل وكذلك العمل بما يوافق الرواية والشهادة قد تكون بغيرها وهو موافق لها ولا يكون ذلك بهما ولا كذلك التزكية بصريح المقال.
الثالث: تزكية أحد الراويين بالحكم بشهادته والآخر بالرواية عنه فرواية المعمول بشهادته أولى لأن الاحتياط في الشهادة فيما يرجع إلى أحكام الجرح والتعديل أكثر منه في الرواية والعمل بها.
ولهذا قبلت رواية الواحد والمرأة دون شهادتهما وقبلت رواية الفرع مع إنكار الأصل لها على بعض الآراء ومن غير ذكر الأصل بخلاف الشهادة.
الرابع: أن تكون تزكية أحدهما بالعمل بروايته والآخر بالرواية عنه فالأول أرجح لأن الغالب من العدل أنه لا يعمل برواية غير العدل ولا كذلك في الرواية لأن كثيرا ما يروي العدل عمن لو سئل عنه لجرحه أو توقف في حاله.
وبالجملة فاحتمال العمل برواية غير العدل أقل من احتمال الرواية عن غير العدل.
واحتمال العمل بدليل غيره وإن كان قائماً إلا أنه بعيد عن البحث التام مع عدم الاطلاع عليه وأما ما يعود إلى نفس الرواية فترجيحات.
الأول: أن يكون أحد الخبرين متواتراً والآخر آحاداً فالمتواتر لتيقنه أرجح من الآحاد لكون مظنوناً.
الثاني: أن يكون أحد الخبرين مسندا والآخر مرسلا فالمسند أولى لتحقق المعرفة براويه والجهالة براوي الآخر.ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا عرف شاهد الأصل ولا تقبل إذا شهد مرسلاً

فإن قيل: الراوي إذا كان عدلاً ثقةً وأرسل الخبر فالغالب أن لا يكون إلا مع الجزم بتعديل من روي عنه وإلا كان ذلك تلبيساً على المسلمين وهو بعيد في حقه وهذا بخلاف ما إذا ذكر المروي عنه فإنه غير جازم بتعديله فكان المرسل أولى قلنا: التلبيس إنما يلزم بروايته عمن لم يذكره إذا لم يكن لي نفس الأمر عدلاً أن لو وجب اتباعه في قوله وإنما يجب اتباعه في قوله أن لو ظهرت عدالة الأصل وهو دور كيف وإنه لو كان ذلك تعديلاً منه فهو غير مقبول لكونه تعديلاً مطلقاً وإن كان مقبولاً فإنما يقبل إذا كان مضافاً إلى شخص معين لم يعرف بفسق.
وأما إذا كان غير معين فلا لاحتمال أن يكون بحيث لو عينه لاطلعنا من حاله على فسق قد جهله الراوي.
ثم ولو كان تعديلاً مقبولاً إلا أنه إذا كان مذكوراً مشهور الحال وقد عدل بمثل ذلك التعديل أو أعلى منه كان قبول قوله أولى وأغلب على الظن وعدم جزم الراوي بعدالة المروي عنه إذا كان مصرحاً به وجزمه بعدالة من سكت عن ذكره بعد أن ظهر تعديل المذكور بتعديل غيره لا يكون موجباً للترجيح بل من ظهرت عدالته بطريق متفق عليه يكون أولى ممن ظهرت عدالته بطريق مختلف فيه.
الثالث: أن يكون أحد الخبرين من مراسيل التابعين والآخر من مراسيل تابعي التابعين فما هو من مراسيل التابعين أولى لأن الظاهر من التابعي أنه لا يروي عن غير الصحابي وعدالة الصحابة بما ثبت من ثناء النبي عليه السلام وتزكيته لهم في ظواهر الكتاب والسنة أغلب على الظن من العدالة في حق غيرهم من المتأخرين.
ولهذا قال عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه " وقال عليه السلام: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " ولم يرو مثل ذلك في حق غيرهم.
الرابع: أن يكون أحدهما معنعناً وطريق ثبوت الآخر الشهرة مع عدم النكير أو الإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين فالمعنعن أولى لأنه أغلب على الظن أما بالنسبة إلى الطريق الأول فلمساواته له في عدم النكير وزيادته عليه برواية العدل عن العدل وأما بالنسبة إلى الطريق الثاني فلأنه أسلم من الغلط والتلبيس وأبعد عن التبديل والتصحيف.
الخامس: أن يكون أحدهما ثابتاً بطريق الشهرة والآخر بالإسناد إلى كتاب من كتب المحدثين فالمسند إلى كتب المحدثين أولى من جهة أن احتمال تطرق الكذب إلى ما دخل في صنعة المحدثين وإن لم يكن من كتبهم المشهورة بهم والمنسوبة إليهم أبعد من احتمال تطرقه إلى ما اشتهر وهو غير منسوب إليهم.
ولهذا فإن كثيرا ما اشتهر مع كذبه ورد المحدثين له.
السادس: أن يكون أحدهما مسنداً إلى كتاب موثوق بصحته كمسلم والبخاري والآخر مسنداً إلى كتاب غير مشهور بالصحة ولا بالسقم كسنن أبي داود ونحوها فالمسند إلى الكتاب المشهور بالصحة أولى.
السابع: أن تكون رواية أحدهما بقراءة الشيخ عليه والآخر بقراءته هو على الشيخ أو بإجازته أو مناولته له أو بخط رآه في كتاب.
فما الرواية فيه بقراءة الشيخ أرجح لأنه أبعد عن غفلة الشيخ عما يرويه.
الثامن: أن تكون رواية أحدهما بالمناولة والآخر بالإجازة فالمناولة أولى لأن الإجازة غير كافية وهو أن يقول خذ هذا الكتاب وحدث به عني فقد سمعته من فلان وعند ذلك فتكون إجازة وزيادة.
والإجازة تكون راجحة على رؤية الخط في الكتاب لأن الخطوط مما تشتبه ولا احتمال في نسبة لفظه إليه بالإجازة.
وكذلك لو قال الشيخ هذا خطي فالإجازة تكون أولى لأن دلالة لفظ الشيخ على الرواية عمن روى عن أظهر من دلالة خطه عليها.
وإذا كانت الإجازة أولى من الرواية عن الخط والمناولة أولى من الإجازة كانت المناولة أولى من الرواية عن الخط.
التاسع: أن يكون أحد الخبرين أعلى إسناداً من الآخر فيكون أولى لأنه كلما قلت الرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب.
العاشر: أن يكون أحد الخبرين قد اختلف في كونه موقوفاً على الراوي والآخر متفق على رفعه إلى النبي عليه السلام فالمتفق على رفعه أولى لأنه أغلب على الظن.
الحادي عشر: أن تكون رواية أحد الخبرين بلفظ النبي والآخر بمعناه فرواية اللفظ أولى لكونها أضبط وأغلب على الظن بقول الرسول.

الثاني عشر: أن تكون إحدى الروايتين بسماع من غير حجاب والأخرى مع الحجاب وذلك كرواية القاسم بن محمد عن عائشة من غير حجاب لكونها عمة له أن بريرة عتقت وكان زوجها عبدا فإنها تقدم على رواية أسود عنها أن زوجها كان حراً لسماعه عنها مع الحجاب لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية مع الحجاب في السماع وزادت تيقن عين المسموع منه.
الثالث عشر: إذا كانت إحدى الروايتين قد اختلفت دون الأخرى فالتي لا اختلاف فيها أولى لبعدها عن الاضطراب.
وأما ما يعود إلى المروي فترجيحات.
الأول: أن تكون رواية أحد الخبرين عن سماع من النبي عليه السلام والرواية الأخرى عن كتاب فرواية السماع أولى لبعدها عن تطرق التصحيف والغلط.
الثاني: أن تكون إحدى الروايتين عن سماع من النبي عليه السلام والأخرى عما جرى في مجلسه أو زمانه وسكت عنه فرواية السماع أولى لكونها أبعد عن غفلة النبي عليه السلام وذهوله بخلاف الرواية عما جرى في مجلسه وسكت عنه فرواية السماع أولى مما جرى في زمانه خارجا عن مجلسه.
الثالث: أن تكون إحدى الروايتين عما خطره مع السكوت عنه أعظم من خطر المسكوت عنه في الرواية الاخرى فما خطره أعظم يكون أرجح لكون السكوت عنه أغلب على الظن في تقريره.
الرابع: أن تكون إحدى الروايتين عن صيغة النبي عليه السلام والأخرى عن فعله فرواية الصيغة تكون راجحة لقوة دلالتها وضعف الفعل.
ولهذا أن من خالف في دلالة الفعل وجواز الاحتجاج به لم يخالف في الصيغ لأن ما يفعله النبي عليه السلام إلى الاختصاص به أقرب من اختصاصه بمدلول الصيغة ولأن تطرق الغفلة إلى الإنسان في فعله أكثر منها في كلامه ولهذا قلما يتكلم الإنسان غافلاً بخلاف الفعل.
الخامس: أن يكون أحدهما خبر واحد ورد فيما تعم به البلوى بخلاف الآخر فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله قريب من الكذب وذلك كمن تفرد بنقل قتل الملك في وسط السوق بمشهد من الخلق.ولهذا كان مختلفاً فيه ومتفقاً على مقابله.
وأما ما يعود إلى المروي عنه فترجيحات.
الأول: أن يكون أحد الراويين قد روى عمن أنكر روايته عنه كما في حديث الزهري بخلاف الراوي الآخر فما لم يقع فيه إنكار المروي عنه يكون أرحج لكونه أغلب على الظن.
الثاني: أن يكون الأصل في أحد الخبرين قد أنكر رواية الفرع عنه إنكار نسيان ووقوف والآخر إنكار تكذيب وجحود فالأول أولى لأن غلبة الظن بالرواية عنه أكثر من غلبة الظن بالثاني.
وأما الترجيحات العائدة إلى المتن.
الأول: منها أن يكون أحدهما أمراً والآخر نهياً فالنهي من حيث هو نهي مرجح على الأمر لثلاثة أوجه.
الأول أن الطلب فيه الترك أشد.ولهذا لو قدر كون كل واحد منهما مطلقاً فإن أكثر من قال بالخروج عن عهدة الأمر بالفعل مرة واحدة نازع في النهي.
الثاني: أن محامل النهي وهي تردده بين التحريم والكراهة لا غير أقل من محامل الأمر لتردده بين الوجوب والندب والإباحة على بعض الآراء.
الثالث: أن الغالب من النهي طلب دفع المفسدة ومن الأمر طلب تحصيل المصلحة واهتمام العقلاء بدفع المفاسد أكثر من اهتمامهم بتحصيل المصالح.
الترجيح الثاني: أن يكون أحدهما آمراً والآخر مبيحاً فالآمر وإن ترجح على المبيح نظراً إلى أنه إن عمل به لا يصير مخالفاً للمبيح ولا كذلك بالعكس لاستواء طرفي المباح وترجح جانب المأمور به إلا أن المبيح يترجح على الآمر من أربعة أوجه : الأول: أن مدلول المبيح متحد ومدلول الآخر متعدد كما سبق تعريفه فكان أولى.
الثاني: أن غاية ما يلزم من العمل بالمبيح تأويل الآخر بصرفه عن محمله الظاهر إلى المحمل البعيد والعمل بالآمر يلزم منه تعطيل المبيح بالكلية والتأويل أولى من التعطيل.
الثالث: أن المبيح قد يمكن العمل بمقتضاه على تقديرين على تقدير مساواته للآمر ورجحانه والعمل بمقتضى الآمر متوقف على الترجيح وما يتم العمل به على تقديرين يكون أولى مما لا يتم العمل به إلا على تقدير واحد.
الرابع: أن العمل بالمبيح بتقدير أن يكون الفعل مقصوداً للمكلف لا يختل لكونه مقدوراً له والعمل بالآخر يوجب الإخلال بمقصود الترك بتقدير كون الترك مقصوداً له.

الترجيح الثالث: أن يكون أحدهما أمراً والآخر خبراً فالخبر يكون راجحاً لثلاثة أوجه.
الأول: أن مدلول الخبر متحد بخلاف الأمر على ما سبق فكان أولى لبعده عن الاضطراب.
الثاني: أن الخبر أقوى في الدلالة ولهذا امتنع نسخه على بعض الآراء بخلاف الأمر.
الثالث: أن العمل يلزمه محذور الكذب في الخبر من كلام الشارع وهو فوق المحذور اللازم من فوات مقصود الأمر فكان الخبر أولى.
الترجيح الرابع: أن يكون أحدهما ناهياً والآخر مبيحاً فالمبيح يكون مقدماً على ما عرف في الأمر.
الخامس: أن يكون أحدهما نهياً والآخر خبراً فالخبر مقدم على النهي على ما عرف في الأمر أيضاً.
السادس: أن يكون أحدهما مبيحاً والآخر خبراً فالخبر مقدم لما سبق في الوجه الثاني والثالث في الأمر إذا عارض الخبر.
السابع: أن يكون أحدهما مشتركاً والآخر غير مشترك بل متحد المدلول فما اتحد مدلوله أولى لبعده عن الخلل.
الثامن: أن يكون مدلول أحدهما حقيقياً والآخر مجازياً فالحقيقي أولى لعدم افتقاره إلى القرنية المخلة بالتفاهم.
التاسع: أن يكونا مشتركين إلا أن مدلولات أحدهما أقل من مدلولات الآخر فالأول أولى لقلة اضطرابه وقرب استعماله فيما هو المقصود منه.
العاشر: أن يكونا مجازين إلا أن أحدهما منقول مشهور في محل التجوز كلفظ الغائط بخلاف الآخر فالمنقول أولى لعدم افتقاره إلى القرنية.
الحادي عشر: أن يكون المصحح للتجوز في أحدهما أظهر وأشهر من الآخر فهو أولى الثاني عشر: أن يكون لفظ أحدهما مشتركاً والآخر مجازاً غير منقول وقد ذكرنا ما يستحقه كل واحد منهما من الترجيح في الأمر بطريق الاستقصاء فعليك باعتباره والالتفات إليه.
الثالث عشر: أن يكونا حقيقيين إلا أن أحدهما أظهر وأشهر فالأظهر مرجح.
الرابع عشر: أن تكون إحدى الحقيقتين متفقاً عليها والأخرى مختلفا فيها فالمتفق عليه أولى لأنه أغلب على الظن.
الخامس عشر: أن تكون دلالة أحدهما غير محتاجة إلى إضمار ولا حذف بخلاف الأخرى فالذي لا يحتاج إلى ذلك أولى لقلة اضطرابه.
السادس عشر: أن يكون أحدهما يدل على مدلوله بالوضع الشرعي والآخر بالوضع اللغوي وكل واحد منهما مستعمل في الشرع فها هنا يظهر أن العمل باللفظ اللغوي يكون أولى لأنه من لسان الشارع مع كونه مقرراً لوضع اللغة وما هو عرفه ومصطلحه وإن كان من لسانه إلا أنه مغير للوضع اللغوي ولا يخفى أن العمل بما هو من لسان الشارع من غير تغيير أولى من العمل بما هو من لسانه مع التغيير ولأنه أبعد عن الخلاف وهذا بخلاف ما إذا أطلق لفظا واحداً وكان له مدلول لغوي وقد استعاره الشارع في معنى آخر وصار عرفا له فإنه مهما أطلق الشارع ذلك اللفظ فيجب تنزيله على عرفه الشرعي دون اللغوي لأن الغالب من الشارع أنه إذا أطلق لفظا وله موضوع في عرفه أنه لا يريد به غيره.
السابع عشر: أن يكون العمل بأحدهما يلزم منه الجمع بين مجازين والآخر لا يلزم منه غير مجاز واحد فالذي فيه مجاز واحد أولى لأنه أبعد عن الاضطراب وأقرب إلى الأصل.
الثامن عشر: أن يكون أحدهما دالاً على مطلوبه من وجهين أو أكثر والآخر لا يدل إلا من جهة واحدة فالذي كثرت جهة دلالته أولى لأنه أغلب على الظن.
التاسع عشر: أن تكون دلالة أحدهما مؤكدة دون الأخرى فالمؤكدة أولى لأنه أقوى دلالة وأغلب على الظن وذلك كما في قوله عليه السلام: " فنكاحها باطل باطل باطل " .
العشرون: أن تكون دلالة أحدهما على مدلوله بطريق المطابقة والآخر بدلالة الالتزام فدلالة المطابقة أولى لأنها أضبط.
الحادي والعشرون: أن يكونا دالين بجهة الاقتضاء إلا أن العمل بأحدهما في مدلوله ضرورة صدق المتكلم أو لضرورة وقوع الملفوظ به عقلا والآخر لضرورة وقوع الملفوظ به شرعاً كما سبق تعريفه فما يتوقف عيله صدق المتكلم فوقوع الملفوظ به عقلاً أولى نظراً إلى بعد الخلف في كلام الشارع وامتناع مخالفة المعقول وقرب المخالفة في المشروع.

الثاني والعشرون: أن يكونا دالين بجهة التنبيه والإيماء إلى أن أحدهما لو لم يقدر كون المذكور فيه علة للحكم المذكور معه كان ذكره عبثاً وحشواً والآخر من قبيل ما رتب فيه الحكم على الوصف بفاء التعقيب فالذي لو لم يقدر فيه التعليل كان ذكره عبثاً أولى من الآخر نظراً إلى محذور العبث في كلام الشارع وإلغاؤه أتم من محذور المخالفة الدلالة حرف الفاء على التعليل وإمكان تأويلها بغير السببية بل وهو أولى من سائر أنواع التنبيه والإيماء لما ذكرناه من زيادة المحذور وما دل على العلية بفاء التعقيب لظهورها مقدم على ما عداه من باقي أقسام التنبيه والإيماء.
الثالث والعشرون: أن يكونا دالين بجهة المفهوم إلا أن أحدهما من قبيل مفهوم المخالفة والآخر من قبيل مفهوم الموافقة فقد يمكن ترجيح مفهوم الموافقة على مفهوم المخالفة من جهة أنه متفق عليه ومختلف في مقابله وقد يمكن ترجيح مفهوم المخالفة عليه من وجهين الأول أن فائدة مفهوم المخالفة التأسيس وفائدة مفهوم الموافقة التأكيد والتأسيس أصل والتأكيد فرع فكان مفهوم المخالفة أولى الثاني أن مفهوم الموافقة لا يتم إلا بتقدير فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبيان وجوده في محل السكوت وأن اقتضاءه للحكم في محل السكوت أشد.
وأما مفهوم المخالفة فإنه يتم بتقدير عدم فهم المقصود من الحكم في محل النطق وبتقدير كونه غير متحقق في محل السكوت وبتقدير أن يكون له معارض في محل السكوت ولا يخفى أن ما يتم على تقديرات أربعة أولى مما لا يتم إلا على تقدير واحد.
الرابع والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء ودلالة الآخر من قبيل دلالة الإشارة فدلالة الاقتضاء أولى لترجحها بقصد المتكلم لها بخلاف دلالة الإشارة.
الخامس والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء والآخر من قبيل دلالة التنبيه والإيماء فدلالة الاقتضاء أولى لتوقف صدق المتكلم أو مدلول منطوقه عليه بخلاف دلالة التنبيه والإيماء.
السادس والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الاقتضاء والآخر من قبيل دلالة المفهوم فدلالة الاقتضاء أولى لوقوع الاتفاق عليها ووقوع الخلاف في مقابلها ولأن ما يعترض دلالة الاقتضاء من المبطلات أقل مما يعترض المفهوم وبهذا كان ما كان من قبيل دلالة التنبيه والإيماء مقدماً على دلالة المفهوم.
السابع والعشرون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل المنطوق والآخر من قبيل دلالة غير المنطوق فالمنطوق أولى لظهور دلالته وبعده عن الالتباس بخلاف مقابله.
الثامن والعشرون: أن يكون أحدهما عاماً والآخر خاصاً فالخاص مقدم على العام لثلاثة أوجه الأول أنه أقوى في الدلالة وأخص بالمطلوب الثاني أن العمل بالعام يلزم منه إبطال دلالة الخاص وتعطيله ولا يلزم من العمل بالخاص تعطيل العام بل تأويله وتخصيصه ولا يخفى أن محذور التعطيل فوق محذور التأويل.
الثالث أن ضعف العموم بسبب تطرق التخصيص إليه وضعف الخصوص بسبب تأويله وصرفه عن ظاهره إلى مجازه ولا يخفى أن تطرق التخصيص إلى العمومات أكثر من تطرق التأويل إلى الخاص ولهذا كانت أكثر العمومات مخصصةً وأكثر الظواهر الخاصة مقررة وبهذا يكون المطلق الدال على واحد لا بعينه مرجحاً على العام.
التاسع والعشرون: أن يكون أحدهما عاماً مخصصاً والآخر غير مخصص فالذي لم يدخله التخصيص أولى لعدم تطرق الضعف إليه وعلى هذا فما كان عاماً من وجه وخاصا من وجه يكون مرجحاً على ما هو عام من كل وجه وكذلك المطلق من وجه والمقيد من وجه مرجح على ما هو مطلق من كل وجه وما هو منطوق من كل وجه مقدم على ما هو حقيقي من وجه دون وجه.
الثلاثون: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما من قبيل الشرط والجزاء والآخر من قبيل النكرة المنفية فقد يمكن ترجح دلالة الشرط والجزاء لكون الحكم فيه معللاً بخلاف النكرة المنفية والمعلل أولى من غير المعلل وقد يمكن ترجح دلالة نفي النكرة بأن دلالته أقوى.
ولهذا كان خروج الواحد منه يعد خلفاً في الكلام عند ما إذا قال لا رجل في الدار وكان فيها رجل بخلاف مقابله وبهذا تكون دلالة النكرة المنفية أولى من جميع أقسام العموم.

الحادي والثلاثون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل دلالة الشرط والجزاء والآخر من قبيل أسماء الجموع فالأول أولى لأن أكثر من خالف في صيغ العموم وافق على صيغة الشرط والجزاء ولأن الدلالة فيه مشيرة إلى الحكم والعلة بخلاف مقابله وبهذا يكون أولى من باقي أقسام العموم.
الثاني والثلاثون: أن تكون دلالة أحدهما من قبيل الجمع المعرف والآخر جمع منكر فالمعرف أولى لوجهين الأول أن بعض من وافق على عموم الجمع المعرف خالف في المنكر فكان أقوى لقربه إلى الوفاق.
الثاني أنه لا يدخله الإبهام بخلاف المنكر فكان أولى وربما رجح المنكر بكونه دالا على عدد أقل من الجمع المعرف فكان أقرب إلى الخصوص فكان أولى.
الثالث والثلاثون: أن يكون أحدهما اسم جمع معرف والآخر اسم جنس دخله الألف واللام فاسم الجمع أولى لإمكان حمل اسم الجنس على الواحد المعهود بخلاف الجمع المعرف فكان أقوى عموما وبهذا يكون مقدما على من و ما فمن وما أولى لعدم احتمالهما للعهد واحتمال ما قابلهما له.
الرابع والثلاثون: أن يكون أحد الظاهرين مضطرباً في لفظه بخلاف الآخر فغير المضطرب أولى لأنه أدل على الحفظ والضبط.
الخامس والثلاثون: أن يكون أحدهما قد دل على الحكم وعلته والآخر دل على الحكم دون علته فالدال على العلة أولى لأنه أقرب إلى الإيضاح والبيان.
السادس والثلاثون: أن يكون أحدهما قولاً والآخر فعلاً فالقول أولى لأنه أبلغ في البيان من الفعل وإن كان أحدهما قولاً وفعلاً والآخر قول فقط فالقول والفعل أولى لأنه أقوى في البيان.
السابع والثلاثون: أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لم يتعرض الآخر لها كرواية من روى أنه عليه السلام كبر في صلاة العيد سبعا فإنها مقدمة على رواية من روى أربعاً لاشتمالها على زيادة علم خفي على الآخر.
الثامن والثلاثون: أن يكون أحد المنقولين الظاهرين إجماعاً والآخر نصاً وسواء كان من الكتاب أو السنة فالإجماع مرجح لأن النسخ مأمون فيه بخلاف النص.
التاسع والثلاثون: أن يكونا إجماعين ظاهرين إلا أن أحدهما قد دخل فيه جميع أهل العصر والآخر لم يدخل فيه سوى أهل الحل والعقد فالذي دخل فيه الجميع أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف فيه.
الأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه مع أهل الحل والعقد الفقهاء الذين ليسوا أصوليين والأصوليون الذين ليسوا فقهاء وخرج عنه العوام والآخر بالعكس فالأول أولى لقربهم من المعرفة والإحاطة بأحكام الشرع واستنباطها من مداركها وبهذا المعنى يكون أيضاً ما دخل فيه الأصولي الذي ليس بفقيه ولم يدخل فيه الفقيه أولى مما هو بالعكس لأن الأصولي أعرف بمدارك الأحكام وكيفية تلقي الأحكام من المنطوق والمفهوم والأمر والنهي وغيره الحادي والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه المجتهد المبتدع الذي ليس بكافر بخلاف الآخر فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى لأن الظاهر من حاله الصدق ولأنه أبعد عن الخلاف.
الثاني والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه المجتهد المبتدع دون العوام والفروعيين الذين ليسوا أصوليين والأصوليون الذين ليسوا فروعيين والآخر بعكسه فما دخل فيه المجتهد المبتدع أولى إذ الخلل في قوله إنما هو من جهة كذبه فيما يقول والخلل في قول من عداه من المذكورين إنما هو من جهله وعدم إحاطته وعدم كماله.
ولا يخفى أن احتمال وقوع الخلل بجهة الكذب من الفاسق لحرمته وتعلق الإثم به أنذر من الخلل الناشىء بسبب الجهل وعدم الإحاطة.
الثالث والأربعون: أن يكون أحد الإجماعين من الصحابة والآخر من التابعين فإجماع الصحابة أولى للثقة بعدالتهم وبعد تقاعدهم عن تحقيق الحق وإبطال الباطل وغلبة جدهم وكثرة اجتهادهم في تمهيد أحكام الشريعة ولأنه أبعد عن خلاف من خالف في إجماع غير الصحابة.
وعلى هذا فإجماع التابعين يكون مقدماً على إجماع من بعدهم لقربهم من العصر الأول ولقوله عليه السلام: " خير القرون القرن الذي أنا فيه ثم الذي يليه " فإجماعهم يكون أغلب على الظن.
الرابع والأربعون: أن يكون أحد الإجماعين قد انقرض عصره بخلاف الآخر فما انقرض عصره يكون أولى لاستقراره وبعده عن الخلاف.

الخامس والأربعون: أن يكون أحدهما مأخوذاً عن انقسام الأمة في مسألة من المسائل على قولين في أنه إجماع على نفي قول ثالث والإجماع الآخر على إثبات القول الثالث فالإجماع على إثباته أولى لأنه أبعد عن اللبس وعما يقوله المنازع في الأول من وجوه القدح ويبديه من الاحتمالات.
السادس والأربعون: أن يكون أحدهما مسبوقاً بالمخالفة بخلاف الآخر فالذي لم يسبق بالمخالفة أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
السابع والأربعون: أن يكون أحدهما قد رجع بعض المجتهدين فيه عما حكم به موافقا للباقين لدليل ظهر له بخلاف الآخر فما لم يرجع فيه بعض المجتهدين أولى لبعده عن المناقضة والخلاف فيه.
الثامن والأربعون: أن يكون أحدهما إجماع الصحابة إلا أنه لم يدخل فيه غير المجتهدين والآخر من إجماع التابعين إلا أنه قد دخل فيه جميع أهل عصرهم فإجماع الصحابة أولى للوثوق بعدالتهم وزيادة جدهم كما سبق تقريره وفي معنى هذا يكون قد رجع واحد من الصحابة عن الواقعة بخلاف التابعين.
التاسع والأربعون: أن يكون أحدهما قد دخل فيه جميع أهل العصر إلا أنه لم ينقرض عصرهم والآخر بالعكس فما دخل فيه جميع أهل العصر أولى لأن غلبة الظن فيه متيقنة واحتمال الرجوع بسبب عدم انقراض العصر موهوم وفي معناه أن يكون ما لم ينقرض عصره قد دخل فيه المجتهد المبتدع أو الأصولي الذي ليس فروعياً أو الفروعي الذي ليس بأصولي والآخر بخلافه.
الخمسون: أن يكون أحدهما غير مأخوذ من انقسام الأمة على قولين كما سبق إلا أنه ينقرض عصره والآخر بعكسه فالأول أولى نظراً إلى أن جهة الإجماع فيه أقوى بيقين أو رجوع الواحد عنه قبل انقراض العصر موهوم وفي معناه ما إذا كان أحد الإجماعين قد انقرض عصره إلا أنه مسبوق بالمخالفة والآخر بعكسه.
الحادي والخمسون: أن يكون أحد الإجماعين مأخوذاً من انقسام الأمة على قولين إلا أنه غير مسبوق بمخالفة بعض المتقدمين والآخر بعكسه فالذي لم يكن مأخوذاً من انقسام الأمة على قولين أولى لقوة الإجماع فيه.
وأما الترجيحات العائدة إلى المدلول.
الأول: منها أن يكون حكم أحدهما الحظر والآخر الإباحة وهذا مما اختلف فيه فذهب الأكثر كأصحابنا وأحمد بن حنبل والكرخي والرازي من أصحاب أبي حنيفة إلى أن الحاظر أولى وذهب أبو هاشم وعيسى بن أبان إلى التساوي والتساقط.
والوجه في ترجيح ما مقتضاه الحظر أن ملابسة الحرام موجبة للمأثم بخلاف المباح فكان أولى بالاحتياط.
ولهذا فإنه لو اجتمع في العين الواحدة حظر وإباحة كالمتولد بين ما يؤكل وما لا يؤكل قدم التحريم على الإباحة وكذلك إذا طلق بعض نسائه بعينها ثم أنسيها حرم وطء الجميع تقديما للحرمة على الإباحة وإليه الإشاره بقوله عليه السلام: " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال " وقال عليه السلام: " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " غير أنه قد يمكن ترجيح ما مقتضاه الإباحة من جهة أخرى وهي أنا لو عملنا بما مقتضاه التحريم لزم منه فوات مقصود الإباحة من الترك مطلقاً ولو عملنا بما مقتضاه الإباحة فقد لا يلزم منه فوات مقصود الحظر لأن الغالب أنه إذا كان حراما فلا بد وأن تكون المفسدة ظاهرة وعند ذلك فالغالب أن الملكف يكون عالماً بها وقادراً على دفعها لعلمه بعدم لزوم المحذور من ترك المباح ولأن المباح مستفاد من التخيير قطعاً بخلاف استفادة الحرمة من النهي لتردده بين الحرمة والكراهة فكان أولى وعلى هذا فلا يخفى وجه الترجيح بين ما مقتضاه الحرمة وما مقتضاه الندب.
الثاني: أن يكون مدلول أحدهما الحظر والآخر الوجوب فما مقتضاه التحريم أولى لوجهين: الأول هو أن الغالب من الحرمة إنما هو دفع مفسدة ملازمة للفعل أو تقليلها وفي الوجوب تحصيل مصلحة ملازمة للفعل أو تكميلها واهتمام الشارع والعقلاء بدفع المفاسد أتم من اهتمامهم بتحصيل المصالح.
ولهذا فإن من أراد فعلاً لتحصيل مصلحة ينفر عنه إذا عارضه في نظرة لزوم مفسدة مساوية للمصلحة كمن رام تحصيل درهم على وجه يلزم منه فوات مثله وإذا كان ما هو المقصود من التحريم أشد وآكد منه في الواجب كانت المحافظة عليه أولى.
ولهذا كان ما شرعت العقوبات فيه من فعل المحرمات أكثر من ترك الواجبات وأشد كالرجم المشروع في زنا المحصن.

الوجه الثاني أن إفضاء الحرمة إلى مقصودها أتم من إفضاء الوجوب إلى مقصوده فكانت المحافظة عليه أولى.
وذلك لأن مقصود الحرمة يتأتى بالترك وذلك كاف مع القصد له أو مع الغفلة عنه ولا كذلك فعل الواجب.
وأيضاً فإن ترك الواجب وفعل المحرم إذا تساويا في داعية الطبع إليهما فالترك يكون أيسر وأسهل من الفعل لتضمن الفعل مشقة الحركة وعدم المشقة في الترك.وما يكون حصول مقصوده أوقع يكون أولى بالمحافظة عليه.
الثالث: أن يكون حكم أحدهما الحرمة والآخر الكراهة فالحظر أولى لمساواته الكراهة في طلب الترك وزيادته عليه بما يدل على اللوم عند الفعل ولأن المقصود منهما إنما هو الترك لما يلزمه من دفع المفسدة الملازمة للفعل والحرمة أوفى لتحصيل ذلك المقصود فكانت أولى بالمحافظة.
وأيضاً فإن العمل بالمحرم لا يلزم منه إبطال دلالة المقتضي للكراهة وهو طلب الترك والعمل بالمقتضي للكراهة مما يجوز معه الفعل وفيه إبطال دلالة المحرم ولا يخفى أن العمل بما لا يفضي إلى الإبطال يكون أولى وبما حققناه في ترجيح المحرم على المقتضي للكراهة يكون ترجيح الموجب على المقتضي للندب.
الرابع: أن يكون حكم أحدهما إثباتاً والآخر نفياً وذلك كخبر بلال بأن النبي عليه السلام دخل البيت وصلى وخبر أسامة أنه دخل ولم يصل فالنافي مرجح على المثبت خلافاً للقاضي عبد الجبار في قوله إنهما سواء.
والمثبت وإن كان مترجحاً على النافي لاشتماله على زيادة علم غير أن النافي لو قدرنا تقدمه على المثبت كانت فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخره كانت فائدته التأسيس وفائدة التأسيس أولى لما سبق تقريره فكان القضاء بتأخيره أولى.
فإن قيل: إلا أنه يلزم من تأخره مخالفة الدليل المثبت ورفع حكمه دون تقدمه.
قلنا: هو معارض بمثله فإنا لو قدرنا تقدم النافي فالمثبت بعده يكون نافياً لحكمه ورافعاً له.
فإن قيل: المثبت وإن كان رافعاً لحكم النافي على تقدير تأخره عنه فرافع لما فائدته التأكيد ولو قدرنا تأخر النافي كان مبطلاً لما فائدته التأسيس فكان فرض تأخر المثبت أولى.
قلنا: إلا أنه وإن كانت فائدة النافي التأكيد على تقدير تقدمه فالمثبت يكون رافعاً لحكم تأسيسي وهو الباقي على الحال الأصلي وزيادة ما حصل من النافي من التأكيد ولا كذلك ما لو كان النافي متأخراً فإنه لا يرفع غير التأسيس وما لا يفضي إلى رفع التأسيس مع التأكيد يكون أولى مما يفضي إلى رفع الأمرين معاً وما يقال من أن المثبت مفيد لما هو حكم شرعي بالاتفاق والنافي غير مجمع على إفادته لحكم شرعي.
والغالب من الشارع أنه لا يتولى بيان غير الشرعي فمع أنه غير سديد من جهة أن الحكم الشرعي غير مقصود لذاته وإنما هو مقصود لحكمته لكونه وسيلة إليها وحكمة الإثبات وإن كانت مقصودة فكذلك حكمة النفي فهو معارض من جهة أن الغالب من الشارع على ما هو المألوف منه إنما هو التقرير لا التغيير وعلى هذا فالحكم للنفي الأصلي يكون أولى من المغير.
الخامس: أن يكون حكم أحدهما معقولاً والآخر غير معقول فما حكمه غير معقول وإن كان الثواب بتلقيه أكثر لزيادة مشقته كما نطق به الحديث إلا أن مقصود الشارع بشرع ما هو معقول أتم مما ليس بمعقول نظراً إلى سهولة الانقياد وسرعة القبول وما شرعه أفضى إلى تحصيل مقصود الشرع يكون أولى.
ولهذا كان شرع المعقول أغلب من شرع غير المعقول حتى إنه قد قيل إنه لا حكم إلا وهو معقول حتى في ضرب الدية على العاقلة ونحوه مما ظن أنه غير معقول ولأن ما يتعلق بالمعقول من الفائدة بالنظر إلى محل النص بالتعدية والإلحاق أكثر منه في غير المعقول فكان أولى وما كانت جهة تعقله أقوى كما يأتي وجه التفصيل فيه في العلل فهو أولى.

السادس: أن يكون أحدهما مشتملاً على زيادة لا وجود لها في الآخر كموجب الجلد مع الموجب للجلد والتغريب فالموجب للزيادة يكون أولى لأن العمل بالزيادة غير موجب لإبطال منطوق الآخر فيما دل عليه من وجوب الجلد وإجزائه عن نفسه والعمل بالموجب للجلد فقط موجب لإبطال المنطوق في الدلالة على وجوب الزيادة وما لا يفضي إلى إبطال حكم الدليل أولى مما يفضي إلى الإبطال ولأن دلالة الموجب للجلد على نفي الزيادة غير مأخوذة من منطوق اللفظ ووجوب الزيادة مأخوذ من منطوق اللفظ ومخالفة ما ليس بمنطوق بالمنطوق أولى من العكس لما تقدم.
السابع: أن يكون موجب أحدهما الجلد والآخر الدرء فالدارىء يكون أولى نظراً إلى ما حققناه في ترجيح ما حكمه النفي على ما حكمه الإثبات ولأن الخطأ في نفي العقوبة أولى من الخطإ في تحقيقها على ما قال عليه السلام : " لأن يخطىء في العفو خير من أن يخطىء في العقوبة " ولأن ما يعترض الحد من المبطلات أكثر مما يعترض الدرء فكان أولى لبعده عن الخلل وقربه إلى المقصود ولأنه على خلاف الدليل النافي للحد والعقوبة.
الثامن: أن يكون حكم أحدهما وقوع الطلاق أو العتق وحكم الآخر نفيه قال الكرخي ما حكمه الوقوع أولى لأنه على وفق الدليل النافي لملك البضع وملك اليمين والنافي لهما على خلافه ويمكن أن يقال بل النافي لهما أولى لأنه على وفق الدليل المقتضي لصحة النكاح وإثبات ملك اليمين المترجح على النفي له.
التاسع: أن يكون حكم أحدهما تكليفياً وحكم الآخر وضعيا فالتكليفي وإن اشتمل على زيادة الثواب المرتبط بالتكليف وكان لأجله راجحا فالوضعي من جهة أنه لا يتوقف على ما يتوقف عليه الحكم التكليفي من أهلية المخاطب وفهمه وتمكنه من الفعل يكون مترجحاً.
العاشر: أن يكون حكم أحدهما أخف من الآخر فقد قيل إن الأخف أولى لأن الشريعة مبناها على التخفيف على ما قال الله تعالى: " يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وقال تعالى: " ما جعل عليكم في الدين من حرج " الحج 78 وقال عليه السلام: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام " وقيل إن الأثقل أولى نظراً إلى الشرعية إنما يقصد بها مصالح المكلفين والمصلحة في الفعل الأشق أعظم منها في الفعل الأخف على ما قال عليه السلام: " ثوابك على قدر نصبك " ولأن الغالب على الظن إنما هو تأخره عن الأخف نظراً إلى المألوف من أحوال العقلاء فإن من قصد تحصيل مقصود بفعل من الأفعال ولم يحصل به لا يقصد تحصيله بما هو أخف منه بل بما هو أعلى منه فبتقدير تقدم الأخف على الأثقل يكون موافقا لنظر أهل العرف فكان أولى ولأن زيادة ثقله تدل على تأكد المقصود منه على مقصود الأخف فالمحافظة عليه تكون أولى.
الحادي عشر: أن يكون كل واحد من الخبرين خبراً واحداً إلا أن حكم أحدهما مما تعم به البلوى بخلاف حكم الآخر فما لا تعم به البلوى أولى لكونه أبعد عن الكذب من جهة أن تفرد الواحد بنقل ما تعم به البلوى مع توفر الدواعي على نقله أقرب إلى الكذب كما تقرر قبل ولهذا كان مختلفاً فيه ومتفقاً على مقابله.
وأما الترجيحات العائدة إلى أمر خارج.
الأول: منها أن يكون أحد الدليلين موافقاً لدليل آخر من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس أو عقل أو حسً والآخر على خلافه فما هو على وفق الدليل الخارج أولى لتأكد غلبة الظن بقصد مدلوله ولأن العمل به وإن أفضى إلى مخالفة مقابله وهو دليل واحد فالعمل بمقابله يلزم منه مخالفة دليلين والعمل بما يلزم معه مخالفة دليل واحد أولى مما يلزم منه مخالفة دليلين.
الثاني: أن يكون أحدهما قد عمل بمقتضاه علماء المدينة أو الأئمة الأربعة أو بعض الأمة بخلاف الآخر فما عمل به يكون أولى أما ما عمل به أهل المدينة فلأنهم أعرف بالتنزيل وأخبر بمواقع الوحي والتأويل وكذلك الأئمة والخلفاء الراشدون لحث النبي عليه السلام على متابعتهم والاقتداء بهم على ما سبق تعريفه وذلك يغلب على الظن قوته في الدلالة وسلامته عن المعارض وعلى هذا أيضا ما عمل بمقتضاه بعض الأمة يكون أغلب على الظن فكان أولى وفي معنى هذا أن يعتضد كل واحد منهما بدليل غير أن ما عضد أحدهما راجح على ما عضد الآخر أو أن يعمل بكل واحد منهما بعض الأمة غير أن من عمل بأحدهما أعرف بمواقع الوحي والتنزيل فيكون أولى.

الثالث: أن يكون كل واحد منهما مؤولاً إلا أن دليل التأويل في أحدهما أرجح من دليل التأويل في الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن.
الرابع: أن يكون أحدهما دالا على الحكم والعلة والآخر على الحكم دون العلة فما يدل على العلة يكون أولى لقربه إلى المقصود بسبب سرعة الانقياد وسهولة القبول ولدلالته على الحكم من جهة لفظه ومن جهة دلالته عليه بواسطة دلالته على العلة وما دل على الحكم بجهتين يكون أولى ولأن العمل به يلزمه مخالفة ما قابله من جهة واحدة والعمل بالمقابل يلزم منه مخالفة الدليل الآخر على الحكم من جهتين فكان أولى وربما رجح ما لم يدل على العلة من جهة أن المشقة في قبوله أشد والثواب عليه أعظم إلا أنه مرجوح بالنظر إلى مقصود التعقل ولذلك كان هو الأغلب.
الخامس: أن يدل كل واحد منهما على الحكم والعلة إلا أن دلالة أحدهما على العلية أقوى من دلالة الآخر عليها كما بيناه فيما تقدم فالأقوى يكون أولى لكونه أغلب على الظن.
السادس: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما ورد على سبب خاص بخلاف الآخر وعند ذلك فتعارضهما إما أن يكون بالنسبة إلى ذلك السبب الخاص أو بالنسبة الى غيره فإن كان الأول فالوارد على ذلك السبب يكون أولى لكونه أمر به ولأن محذور المخالفة فيه نظراً إلى أن تأخير البيان عما دعت الحاجة إليه يكون أتم من المحذور اللازم من المخالفة في الآخر لكونه غير وارد فيها.
وإن كان الثاني فالعام المطلق يكون أولى لأن عمومه أقوى من عموم مقابله لاستوائهما في صيغة العموم وغلبة الظن بتخصيص ما ورد على الواقعة بها نظراً إلى بيان ما دعت الحاجة إليه وإلى أن الأصل إنما هو مطابقة ما ورد في معرض البيان لما مست إليه الحاجة ولأن ما ورد على السبب الخاص مختلف في تعميمه عند القائلين بالعموم بخلاف مقابله وعلى هذا فمحذور المخالفة في العام المطلق يكون أشد.
السابع: أن يكون أحدهما قد وردت به المخاطبة على سبيل الإخبار بالوجوب أو التحريم أو غيره كما في قوله تعالى " : والذين يظاهرون منكم من نسائهم " المجادلة 2 أو في معرض الشرط والجزاء كما في قوله تعالى: " ومن دخله كان آمناً " آل عمران 98 والآخر وردت المخاطبة به شفاها كما في قوله تعالى: " يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام " البقرة 183.
فإن تقابلا في حق من وردت المخاطبة إليه شفاها فخطاب المشافهة أولى وإن كان ذلك بالنظر إلى غير من وردت المخاطبة إليه شفاها كان الآخر أولى لما حققناه في معارضة العام المطلق والوارد على السبب المعين ولأن الخطاب شفاهاً إنما يكون للحاضر من الموجودين وتعميمه بالنسبة إلى غيرهم إنما يكون بالنظر إلى دليل آخر إما من إجماع الأمة على أنه لا تفرقة أو من قوله عليه السلام: " حكمي على الواحد حكمي على الجماعة " .
الثامن: أن يكون أحدهما مما يجوز تطرق النسخ إليه أو قد اختلف في تطرق النسخ إليه بخلاف الآخر فالذي لا يقبل النسخ يكون أولى لقلة تطرق الأسباب الموهية إليه.
التاسع: أن يكونا عامين إلا أن أحدهما قد اتفق على العمل به في صورة بخلاف الآخر فما اتفق على العمل به وإن كان قد يغلب على الظن زيادة اعتباره إلا أن العمل بما لم يعمل به في صورة متفق عليها أولى إذ العمل به مما لا يفضي إلى تعطيل الآخر لكونه قد عمل به في الجملة والعمل بما عمل به يفضي إلى تعطيل ما لم يعمل به وما يفضي إلى التأويل أولى مما يفضي إلى التعطيل.
وما عمل به في الصورة المتفق عليها وإن لزم أن يكون فيها راجحاً على العام المقابل إلا أنه يحتمل أن يكون الترجيح له لأمر خارج لا وجود له في محل النزاع وهو وإن كان المرجح الخارج بعيد الوجود لكن يجب اعتقاد وجوده نفيا لإهمال العام الآخر.
فإن قيل: لو كان له مرجح من خارج لوقفنا عليه بعد البحث التام وقد بحثنا فلم نجد شيئاً من ذلك واحتمال مخالفة السبر أيضاً بعيد فهو معارض بمثله فإنه لو كان رجحانه لمعنى يعود إلى نفسه لوقفنا عليه بعد البحث وقد بحثنا فلم نجده.
وعند ذلك فيتقاوم الكلامان وقد يسلم لنا ما ذكرناه أولاً.

العاشر: أن يكون أحدهما قد قصد به بيان الحكم المختلف فيه بخلاف الآخر فالذي قصد به البيان للحكم يكون أولى لأنه يكون أمس بالمقصود وذلك كما في قوله تعالى: " وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف " النساء 23 فإنه قصد به بيان تحريم الجمع بين الأختين في الوطء بملك اليمين فإنه مقدم على قوله تعالى: " أو ما ملكت أيمانكم " حيث لم يقصد به بيان الجمع.
الحادي عشر: أن يكون أحدهما أقرب إلى الاحتياط وبراءة الذمة بخلاف الآخر فالأقرب إلى الاحتياط يكون مقدما لكونه أقرب إلى تحصيل المصلحة ودفع المضرة.
الثاني عشر: أن يكون أحدهما يستلزم نقص الصحابي كحديث القهقهة في الصلاة بخلاف الآخر فالذي لا يستلزم ذلك أولى لكونه أقرب إلى الظاهر الموافق لحال الصحابي ووصف الله له بالعدالة على ما قال تعالى: " وكذلك جعلناكم أمة وسطاً " البقرة 143 أي عدولاً الثالث عشر: أن يقترن بأحد الخبرين تفسير الراوي بفعله أو قوله فإنه يكون مرجحاً على ما ليس كذلك لأن الراوي للخبر يكون أعرف وأعلم بما رواه.
الرابع عشر: أن يذكر أحد الراويين سبب ورود ذلك النص بخلاف الآخر فالذاكر للسبب أولى لأن ذلك يدل على زيادة اهتمامه بما رواه.
الخامس عشر: أن يكون قد اقترن بأحد الخبرين ما يدل على تأخيره عن الآخر كالخبر الذي ظهر بعد استظهار النبي عليه السلام وقوة شوكته بخلاف الآخر فالظاهر بعد قوة شوكة النبي عليه السلام أولى لأن احتمال ظهور مقابله قبل قوة الشوكة أكثر من احتمال وقوع ما ظهر بعد قوة الشوكة فكان تأخيره أغلب على الظن فكان أولى.
وفي معناه أن يكون أحد الراويين متأخر الإسلام عن الآخر فالغالب أن ما رواه عن النبي عليه السلام بعد إسلامه فروايته أولى لأن رواية الآخر يحتمل أن تكون قبل إسلام المتأخر ويحتمل أن تكون بعد إسلامه فكان تأخير ما رواه متأخر الإسلام أغلب على الظن وفي معناه أن يعلم أن موت متقدم الإسلام كان متقدماً على إسلام المتأخر وكذلك إذا علمنا أن غالب رواية أحد الراويين قبل الغالب من رواية الآخر فروايته تكون مرجوحة لأن الغالب تقدم ما رواه وكذلك إذا كانت رواية أحدهما مؤرخة بتاريخ مضيق دون الآخر فاحتمال تقدم غير المؤرخة يكون أغلب وكذلك إذا كان أحد الخبرين يدل على التخفيف والآخر على التشديد فاحتمال تأخر التشديد أظهر لأن الغالب منه عليه السلام أنه ما كان يشدد إلا بحسب علو شأنه واستيلائه وقهره ولهذا أوجب العبادات شيئا فشيئا وحرم المحرمات شيئاً فشيئاً.

القسم الثاني

في التعارض الواقع بين معقولين والمعقولان

إما قياسان أو استدلالان أو قياس واستدلال فإن كان التعارض بين قياسين فالترجيح بينهما قد يكون بما يعود إلى أصل القياس وقد يكون بما يعود إلى فرعه وقد يكون بما يعود إلى مدلوله وقد يكون بما يعود إلى أمر خارج.
فأما ما يعود إلى الأصل فمنه ما يعود إلى حكمه ومنه ما يعود إلى علته فأما ما يعود إلى حكم الأصل فترجيحات.
الأول: أن يكون الحكم في أصل أحدهما قطعياً وفي الآخر ظنياً فما حكم أصله قطعي أولى لأن ما يتطرق إليه من الخلل بسبب حكم الأصل منفي ولا كذلك الآخر فكان أغلب على الظن وفي معنى هذا ما يكون الحكم في أصل أحدهما ممنوعا وفي الآخر غير ممنوع فغير الممنوع يكون أولى.
الثاني: أن يكون حكم الأصل فيهما ظنياً غير أن الدليل المثبت لأحدهما أرجح من المثبت للآخر فيكون أولى.
الثالث: أن يكون حكم الأصل في أحدهما مما اختلف في نسخه بخلاف الآخر فالذي لم يختلف في نسخه أولى لبعده عن الخلل.
الرابع: أن يكون الحكم في أصل أحدهما غير معدول به عن سنن القياس كما ذكرناه فيما تقدم بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن سنن القياس أولى لكونه أبعد عن التعبد وأقرب إلى المعقول وموافقة الدليل.
الخامس: أن يكون حكم الأصل في أحدهما قد قام دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه ولا كذلك الآخر فما قام الدليل فيه على وجوب تعليله وجواز القياس عليه أولى وإن لم يكون ذلك شرطاً في صحته كما سبق لما فيه من الأمن من غائلة التعبد والقصور على الأصل ولبعده عن الخلاف.
السادس: أن يكون حكم أحد الأصلين مما اتفق القياسون على تعليله والآخر مختلف فيه فما اتفق على تعليله أولى إذ هو أبعد عن الالتباس وأغلب على الظن.

السابع: أن يكون حكم أحد الأصلين قطعياً لكنه معدول به عن سنن القياس والآخر ظني لكنه غير معدول به عن سنن القياس فالظني الموافق لسنن القياس أولى لكونه موافقاً للدليل وأبعد عن التعبد.
الثامن: أن يكون حكم أحدهما في الأصل قطعياً إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه وحكم الآخر ظني إلا أنه قد قام الدليل على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه فما حكمه قطعي أولى لأن ما يتطرق إليه من الخلل إنما هو بسبب قربه من احتمال التعبد والقصور على الأصل المعين وما يتطرق إلى الظني من الخلل فمن جهة أن يكون الأمر في نفسه خلاف ما ظهر واحتمال التعبد والقصور على ما ورد الشرع فيه بالحكم أبعد من احتمال ظن الظهور لما ليس بظاهر والترك للعمل بما هو ظاهر.
التاسع: أن يكون حكم أصل أحدهما قطعياً إلا أنه لم يتفق على تعليله وحكم الآخر ظني إلا أنه متفق على تعليله فالظني المتفق على تعليله أولى لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هو فرع تعقل العلة في الأصل وتحقق وجودها في الفرع واحتمال معرفة ذلك فيما هو متفق عليه أغلب واحتمال الخلل بالنظر إلى الحكم الظني وإن كان قائماً ومأموناً في جانب الحكم القطعي إلا أن احتمال قطع القياس فيما لم يتفق على تعليله لعدم الاطلاع على ما هو المقصود من حكم الأصل أغلب من احتمال انقطاع القياس لخلل ملتحق بالظاهر الدال على حكم الأصل مع ظهور دليله وعدم الاطلاع عليه بعد البحث التام فيه.
العاشر: أن يكون دليل ثبوت الحكم في أصل أحدهما أرحج من الآخر إلا أنه مختلف في نسخه بخلاف الآخر فما دليله راجح أولى لأن الأصل عدم النسخ وقول النسخ معارض بقول عدم النسخ فكان احتمال عدم النسخ أرجح.
الحادي عشر: أن يكون دليل ثبوت الحكم في أحدهما راجحا على دليل حكم أصل الآخر إلا أنه معدول به عن سنن القياس والقاعدة العامة بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لأنه يلزم من العمل به الجري على وفق القاعدة العامة التي ورد الحكم في القياس الآخر على خلافها غير أنه يلزم منه إهمال جانب الترجيح في الآخر وما يلزم من العمل بالآخر فإنما هو اعتبار ظهور الترجيح لكن مع مخالفة القاعدة المتفق عليها واحتمال مخالفة القواعد العامة المتفق عليها أبعد من احتمال مخالفة الشذوذ من ظواهر الأدلة كيف وإن العمل بما دليل ثبوت حكم أصله ظني محافظة على أصل الدليل الظني والقاعدة العامة والعمل بما ظهر الترجيح في دليل ثبوت حكمه فيه الموافقة لما ظهر من الترجيح ومخالفة القاعدة وأصل الدليل الآخر ولا يخفى أن العمل بما يلزم منه موافقة ظاهرين ومخالفة ظاهر واحد أولى من العكس.
الثاني عشر: أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما راجحاً على دليل الآخر إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وعلى جواز القياس عليه بخلاف الآخر فما ظهر الترجيح في دليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان الحكم قطعياً.
الثالث عشر: أن يكون دليل ثبوت حكم أصل أحدهما أرجح من دليل الآخر إلا أنه غير متفق على تعليله بخلاف الآخر فما اتفق على تعليله أولى لما ذكرناه فيما إذا كان حكم الأصل في أحدهما قطعياً والآخر ظنياً.
الرابع عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما مما اتفق على عدم نسخه إلا أنه معدول به عن القاعدة العامة بخلاف الآخر فما لم يعدل به عن القاعدة أولى لما سبق تحقيقه.
الخامس عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة إلا أنه لم يقم دليل خاص على وجوب تعليله وجواز القياس عليه بخلاف الآخر فما هو على وفق القاعدة العامة أولى لأن العمل به عمل بأغلب ما يرد به الشرع والعمل بمقابله بالعكس ولأن أكثر من قال باشتراط كون الحكم في الأصل غير معدول به عن القاعدة العامة خالف في اشتراط قيام الدليل على وجوب تعليل الحكم وجواز القياس عليه ولم يشترط غير الشذوذ فكونه غير معدول به عن القاعدة العامة أمس بالقياس.

السادس عشر: أن يكون حكم أصل أحدهما غير معدول به عن القاعدة العامة إلا أنه لم يتفق على تعليله والآخر بعكسه فما اتفق على تعليه أولى لأن كل واحد من القياسين وإن كان مختلفاً فيه إلا أن احتمال وقوع التعبد في القياس يبطله قطعا ومخالفة القاعدة العامة غير مبطلة للقياس قطعا وما يبطل القياس قطعاً بتقدير وقوعه يكون مرجوحاً بالنسبة إلى ما لا يبطله قطعاً.
وأما الترجيحات العائدة إلى علة حكم الأصل فمنها ما يرجع إلى طريق إثباتها ومنها ما يرجع إلى صفتها.
أما الترجيحات العائدة إلى طرق إثباتها.
فالأول: منها أن يكون وجود علة أحد القياسين مقطوعاً به في أصله بخلاف علة الآخر فما وجود علته في أصله قطعي أولى وسواء كان وجودها معقولاً أو محساً مدلولاً عليه أو غير مدلول لكونه أغلب على الظن.
وفي معنى هذا أن يكون وجود العلتين مظنوناً غير أن ظن وجود إحداهما أرجح من الاخرى فقياسها أولى لأنها أغلب على الظن.
الثاني: أن يكون دليل علية الوصف في أحد القياسين قطعياً وفي الآخر ظنياً فيكون أولى لأنه أغلب على الظن.
الثالث: أن يكون دليل العلتين ظنياً غير أن دليل إحدى العلتين أرجح من دليل الأخرى فما دليلها أرجح فقياسها أولى لأنه أغلب على الظن.
الرابع: أن يكون طريق علية الوصف فيهما الاستنباط إلا أن دليل إحدى العلتين السبر والتقسيم والأخرى المناسبة فما طريق ثبوت العلية فيه السبر والتقسيم يكون أولى لأن الحكم في الفرع كما يتوفف على تحقق مقتضيه في الأصل يتوقف على انتفاء معارضه في الأصل والسبر والتقسيم فيه التعرض لبيان المقتضي وإبطال المعارض بخلاف إثبات العلة بالإحالة فكان السبر والتقسيم أولى.
فإن قيل: وصف العلة لا بد وأن يكون مناسباً في نفس الأمر أو شبهياً لامتناع التعليل بالوصف الطروي ولا يخفى أن احتمال عدم المناسبة بعد إظهارها بالطريق التفصيلي أبعد من احتمال عدمها في السبر والتقسيم حيث لم يتعرض فيه لبيانها تفصيلا فكان طريق المناسبة أولى.
قلنا: إلا أن التعرض لمناسبة الوصف لا دلالة له بوجه على نفي المعارض في الأصل فإنه لامتناع من اجتماع مناسبين في محل واحد على حكم واحد ودلالة البحث والسبر على مناسب في الأصل غير الوصف المشترك مع أن الأصل أن يكون الحكم معقول المعنى وأن يدل على أن الوصف المشترك مناسب ولا يخفى أن ما يدل على مناسبة العلة وعلى انتفاء معارضها أولى مما يدل على مناسبتها ولا يدل على انتفاء معارضها.
فإن قيل: إلا أن طريق إثبات العلة بالمناسبة أو الشبه أدل على مناسبة الوصف بعد إظهارها من دلالة السبر والتقسيم على انتفاء وصف آخر لاحتمال أن يصدق الناظر في قوله وأن يكذب وبتقدير صدقه فظهور ذلك مختص به دون غيره بخلاف طريق المناسبة فإنه ظاهر بالنظر إلى الخصمين.
قلنا: بل العكس أولى وذلك لأن الخلل العائد إلى دليل نفي المعارض إنما هو بالكذب أو الغلط لعدم الظفر بالوصف ولا يخفى أن وقوع الغلط مع كون الوصف المبحوث عنه ظاهراً جلياً ووقوع الكذب مع كون الباحث عدلاً أبعد من احتمال وقوع الغلط فيما أبدى من المناسبة مع كونها خفية مضطربةً.
الخامس: أن يكون نفي الفارق في أصل أحد القياسين مقطوعاً به وفي الآخر مظنونا فما قطع فيه بنفي الفارق يكون أولى لكونه أغلب على الظن.
السادس: أن يكون طريق ثبوت إحدى العلتين السبر والتقسيم والأخرى الطرد والعكس فما طريق ثبوته السبر والتقسيم أولى إذ هو دليل ظاهر على كون الوصف علة وما دار الحكم معه وجوداً وعدماً غير ظاهر العلية لأن الحكم قد يدور مع الأوصاف الطردية كما في الرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة الدائرة مع تحريم الشرب وجوداً وعدماً مع أنها ليست علة لأن العلة لا بد وأن تكون في الأصل بمعنى الباعث لا بمعنى الأمارة كما سبق تقريره.
والرائحة الفائحة ليست باعثة إذ لا يشم منها رائحة المناسبة وكما أنه غير ظاهر في الدلالة على علية الوصف فلا دلالة له على ملازمة العلة لما قدمناه في إبطال الطرد والعكس.
وبهذا يكون القياس الذي طريق إثبات العلية فيه المناسبة أولى مما طريق إثباتها فيه الطرد والعكس.
وأما الترجيحات العائدة إلى صفة العلة.

فالأول: منها أنه إذا كانت علة الأصل في أحد القياسين حكماً شرعياً وفي الآخر وصفاً حقيقياً فما علته وصف حقيقي أولى لوقوع الاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله فكانت أغلب على الظن.
الثاني: أن تكون علة الحكم الثبوتي في أحدهما وصفاً وجودياً وفي الآخر وصفاً عدمياً فما علته ثبوتية أولى للاتفاق عليه ووقوع الخلاف في مقابله.
الثالث: أن تكون علة أحدهما بمعنى الباعث وفي الآخر بمعنى الأمارة فما علته باعثة أولى للاتفاق عليه.
الرابع: أن تكون علة أحدهما وصفاً ظاهراً منضبطاً وفي الآخر بخلافه فما علته مضبوطة أولى لأنه أغلب على الظن لظهوره ولبعده عن الخلاف.
الخامس: أن تكون علة أحدهما وصفاً متحداً وفي الآخر ذات أوصاف فما علته ذات وصف واحد أولى لأنه أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخلاف.
السادس: أن تكون علة أحدهما أكثر تعديةً من علة الآخر فهو أولى لكثرة فائدته.
السابع: أن تكون علة أحدهما مطردةً بخلاف الآخر فما علته مطردة أولى لسلامتها عن المفسد وبعدها عن الخلاف.
وفي معنى هذا أن تكون علة أحدهما غير منكسرة بخلاف علة الآخر فما علته غير منكسرة أولى لبعدها عن الخلاف.
الثامن: أن تكون علة أحدهما منعكسة بخلاف علة الآخر فما علته منعكسة أولى لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
التاسع: أن تكون علة أحدهما غير متأخرة عن الحكم بخلاف الآخر فما علته غير متأخرة أولى لبعده عن الخلاف.
العاشر: أن تكون علة أحدهما مطردة غير منعكسة وعلة الآخر منعكسة غير مطردة فالمطردة أولى لما بيناه من اشتراط الاطراد وعدم اشتراط الانعكاس ولهذا فإن من سلم اشتراط الاطراد خالف في اشتراط الانعكاس.
الحادي عشر: أن يكون ضابط الحكمة في علة أحد القياسين جامعاً للحكمة مانعاً لها بخلاف ضابط حكمة العلة في القياس الآخر كما بيناه فالجامع المانع أولى لزيادة ضبطه وبعده عن الخلاف.
الثاني عشر: أن تكون العلة في أحدهما غير راجعة على الحكم الذي استنبطت منه برفعه أو رفع بعضه بخلاف الآخر فهو أولى لسلامة علته عما يوهيها وبعدها عن الخلاف.
الثالث عشر: أن تكون علة أحد القياسين مناسبة وعلة الآخر شبهية فما علته مناسبة أولى لزيادة غلبة الظن بها وزيادة مصلحتها وبعدها عن الخلاف.
الرابع عشر أن يكون المقصود من إحدى العلتين من المقاصد الضرورية كما بيناه من قبل والمقصود من العلة الأخرى غير ضروري فما مقصوده من الحاجات الضرورية أولى لزيادة مصلحته وغلبة الظن به ولهذا فإنه لم تخل شريعة عن مراعاته وبولغ في حفظه بشرع أبلغ العقوبات.
الخامس عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين من الحاجات الزائدة ومقصود الأخرى من باب التحسينات والتزيينات فما مقصوده من باب الحاجات الزائدة أولى لتعلق الحاجة به دون مقابله.
السادس عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين من مكملات المصالح الضرورية ومقصود الأخرى من أصول الحاجات الزائدة فما مقصوده من مكملات الضروريات وإن كان تابعا لها ومقابله أصل في نفسه يكون أولى ولهذا أعطى حكم أصله حتى شرع في شرب قليل الخمر ما شرع في كثيره.
السابع عشر: أن يكون مقصود إحدى العلتين حفظ أصل الدين ومقصود الأخرى ما سواه من المقاصد الضرورية فما مقصوده حفظ أصل الدين يكون أولى نظراً إلى مقصوده وثمرته من نيل السعادة الأبدية في جوار رب العالمين وما سواه من حفظ الأنفس والعقل والمال وغيره فإنما كان مقصوداً من أجله على ما قال تعالى: " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون " .
فإن قيل: بل ما يفضي إلى حفظ مقصود النفس أولى وأرجح وذلك لأن مقصود الدين حق الله تعالى ومقصود غيره حق للآدمي وحق الآدمي مرجح على حقوق الله تعالى مبني على الشح والمضايقة وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والمساهلة من جهة أن الله تعالى لا يتضرر بفوات حقه فالمحافظة عليه أولى من المحافظة على حق لا يتضرر مستحقه بفواته ولهذا رجحنا حقوق الآدمي على حق الله تعالى بدليل أنه لو ازدحم حق الله تعالى وحق الآدمي في محل واحد وضاق عن استيفائهما بأن يكون قد كفر وقتل عمداً عدواناً فإنا نقتله قصاصاً لا بكفره.

وأيضا فإنا قد رجحنا مصلحة النفس على مصلحة الدين حيث خففنا عن المسافر بإسقاط الركعتين وأداء الصوم وعن المريض بترك الصلاة قائما وترك أداء الصوم وقدمنا مصلحة النفس على مصلحة الصلاة في صورة إنجاء الغريق.
وأبلغ من ذلك أنا رجحنا مصلحة المال على مصلحة الدين حيث جوزنا ترك الجمعة والجماعة ضرورة حفظ أدنى شيء من المال ورجحنا مصالح المسلمين المتعلقة ببقاء الذمي بين أظهرهم على مصلحة الدين حتى عصمنا دمه وماله مع وجود الكفر المبيح.
قلنا: أما النفس فكما هي متعلق حق الآدمي بالنظر إلى بعض الأحكام فهي متعلق حق الله تعالى بالنظر إلى أحكام أخر ولهذا يحرم عليه قتل نفسه والتصرف بما يفضي إلى تفويتها فالتقديم إنما هو لمتعلق الحقين ولا يمتنع تقديم حق الله وحق الآدمي على ما تمحض حقا لله كيف وإن مقصود الدين متحقق بأصل شرعية القتل وقد تحقق والقتل بالفعل إنما هو لتحقيق الوعيد به والمقصود بالقصاص إنما هو التشفي والانتقام ولا يحصل ذلك للوارث بشرع القتل دون القتل بالفعل على ما يشهد به العرف فكان الجمع بين الحقين أولى من تضييع أحدهما كيف وإن تقديم حق الآدمي ها هنا لا يفضي إلى تفويت حق الله فيما يتعلق بالعقوبة البدنية مطلقاً لبقاء العقوبة الأخروية وتقديم حق الله مما يفضي إلى فوات حق الآدمي من العقوبة البدنية مطلقاً فكان لذلك أولى.
وأما التخفيف عن المسافر والمريض فليس تقديماً لمقصود النفس على مقصود أصل الدين بل على فروعه وفروع الشيء غير أصل الشيء ثم وإن كان فمشقة الركعتين في السفر تقوم مقام مشقة الأربع في الحضر وكذلك صلاة المريض قاعداً بالنسبة إلى صلاته قائماً وهو صحيح فالمقصود لا يختلف.
وأما أداء الصوم فلأنه لا يفوت مطلقاً بل يفوت إلى خلف وهو القضاء وبه يندفع ما ذكروه من صورة إنقاذ الغريق وترك الجمعة والجماعة لحفظ المال أيضاً وبقاء الذمي بين أظهر المسلمين معصوم الدم والمال ليس لمصلحة المسلمين بل لأجل اطلاعه على محاسن الشريعة وقواعد الدين ليسهل انقياده ويتيسر استرشاده وذلك من مصلحة الدين لا من مصلحة غيره وكما أن مقصود الدين مقدم على غيره من مقاصد الضروريات فكذلك ما يتعلق به من مقصود النفس يكون مقدماً على غيره من المقاصد الضرورية أما بالنظر إلى حفظ النسب فلأن حفظ النسب إنما كان مقصوداً لأجل حفظ الولد حتى لا يبقى ضائعاً لا مربي له فلم يكن مطلوبا لعينه وذاته بل لأجل بقاء النفس مرفهة منعمة حتى تأتي بوظائف التكاليف وأعباء العبادات.
وأما بالنظر إلى حفظ العقل فمن جهة أن النفس أصل والعقل تبع فالمحافظة على الأصل أولى ولأن ما يفضي إلى فوات النفس على تقدير أفضليته يفوتها مطلقا وما يفضي إلى تفويت العقل كشرب المسكر لا يفضي إلى فواته مطلقاً فالمحافظة بالمنع مما يفضي إلى الفوات مطلقاً أولى وعلى هذا أيضاً يكون المقصود في حفظ النسب أولى من المقصود في حفظ العقل ومقدم على ما يفضي إلى حفظ المال لكونه مركب الأمانة وملاك التكليف ومطلوباً للعبادة بنفسه من غير واسطة ولا كذلك المال ولهذا كانت هذه الرتب مختلفة في العقوبات المرتبة عليها على نحو اختلافها في أنفسها.وبمثل تفاوت هذه الرتب يكون التفاوت بين مكملاتها.
الثامن عشر: أن يكون الوصف الجامع في أحد القياسين نفس علة حكم الأصل والآخر دليل علة الأصل وملازمها فالذي فيه الجامع نفس العلة أولى لظهورها وركون النفس إليها.
التاسع عشر: أن تكون علة الأصل في أحد القياسين ملائمةً وعلة الآخر غريبة فما علته ملائمة أولى لأنها أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.
العشرون: أن تكون علة الأصلين منقوضةً إلا أنه قد ظهر في صورة النقض في أحدهما ما يمكن إحالة النقض عليه من وجود مانع أو فوات شرط بخلاف الأخرى فهي أولى لأنها أغلب على الظن.
الحادي والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين قد يتخلف عنها مدلولها في صورة بطريق الاستثناء على خلاف القاعدة العامة والأخرى يتخلف عنها حكمها لا على جهة الاستثناء فالتي يتخلف عنها حكمها بجهة الاستثناء تكون أولى لقربها إلى الصحة وبعدها عن الخلاف.
الثاني والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين قد خلفها في صورة النقض ما هو أليق بها لكون مناسبتها فيها أشد كما ذكرناه فيما تقدم بخلاف الأخرى فهي أولى لتبين عدم إلغائها بخلاف الأخرى.

الثالث والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين لا مزاحم لها في أصلها بخلاف الأخرى فالتي لا مزاحم لها أولى لأنها أغلب على الظن وأقرب إلى التعدية وعلى هذا يكون ما رجحانها على مزاحمها أكثر مقدمة أيضاً.
الرابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مقتضية للإثبات والأخرى مقتضيةً للنفي فالنافية تكون أولى لأن مقتضاها يتم على تقدير رجحانها وعلى تقدير مساواتها ومقتضى المثبتة لا يتم إلا على تقدير رجحانها وما يتم مطلوبه على تقدير من تقديرين يكون أغلب على الظن مما لا يتم مطلوبه إلا على تقدير واحد معين.
فإن قيل: إلا أن العلة المثبتة مقتضاها حكم شرعي بالاتفاق بخلاف النافية وما فائدتها شرعية بالاتفاق تكون أولى وأيضاً فإنه يجب اعتقاد اختصاص أصل النافية بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلا لمخالفة الدليل كيف وإن ما ذكرتموه من الترجيح للنافية غير مستقيم على رأي من يعتقد التخيير عند تساوي الدليلين المتعارضين وعلى هذا فيتساوى القدمان.
قلنا: أما كون حكم إحدى العلتين شرعي فلا يرجح به لأن الحكم إنما كان مطلوباً لا لنفسه بل لما يفضي إليه من الحكم به والشارع كما يود تحصيل الحكمة بواسطة ثبوت الحكم يود تحصيلها بواسطة نفيه كيف وإن العلة النافية متأيدة بالنفي الأصلي والمثبتة على خلافه فكانت أولى.
وما قيل من وجوب اعتقاد اختصاص النافية بمعنى في الأصل لا وجود له في الفرع فهو معارض بمثله في المثبتة وأنه يجب اعتقاد اختصاص أصلها بمعنى لا وجود له في الفرع تقليلاً لمخالفة الدليل النافي وليس أحدهما أولى من الآخر والتخيير وإن كان مقولاً به عند تعارض الدليلين مع التساوي من كل وجه فليس إلا على بعض الآراء الشاذة بالنسبة إلى ما قابله كيف وإن الحكم إنما يثبت لما يصلح أو يكون مقصوداً وإثبات الحكم عند التعارض من كل وجه لتحصيل مصلحة على وجه يلزم منه مفسدة مساويه لا يصلح أن يكون مقصودا فالحكم يكون منتفيا لانتفاء مقصوده.
الخامس والعشرون أن تكون حكمة إحدى العلتين قد اختلت احتمالاً لمانع أخل بها دون الأخرى فالتي لا يختل حكمها احتمالاً أولى لقربها إلى الظن وبعدها عن الخلل والخلاف.
السادس والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين أفضى إلى تحصيل مقصودها من الأخرى فتكون أولى لزيادة مناسبتها بسبب ذلك.
السابع والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين مشيرة إلى نقيض المطلوب ومناسبة له من وجه بخلاف الأخرى فما لا تكون مناسبةً لنقيض المطلوب تكون أولى لكونها أظهر في إفضائها إلى حكمها وأغلب على الظن وأبعد عن الاضطراب.
الثامن والعشرون: أن تكون علة أحد القياسين متضمنة لمقصود يعم جميع المكلفين والأخرى متضمنة لمقصود يرجع إلى آحادهم فالأولى أولى لعموم فائدتها.
التاسع والعشرون أن تكون علة أحد القياسين أكثر شمولاً لمواقع الخلاف من الأخرى فتكون أولى لعموم فائدتها.
وأما الترجيحات العائدة إلى الفرع فأربعة : الأول أن يكون فرع أحد القياسين مشاركاً لأصله في عين الحكم وعين العلة وفرع الآخر مشاركاً لأصله في جنس الحكم وجنس العلة أو جنس الحكم وعين العلة أو بالعكس فما المشاركة فيه في عين العلة وعين الحكم أولى لأن التعدية باعتبار الاشتراك في المعنى الأخص والأعم أغلب على الظن من الاشتراك في المعنى الأعم.
وعلى هذا فما المشاركة فيه بين الأصل والفرع عين أحد الأمرين: إما الحكم أو العلة تكون أولى مما المشاركة فيه بين أصله وفرعه في جنس الأمرين وإن كان فرع أحدهما مشاركاً لأصله في عين العلة وجنس الحكم والآخر بعكسه فما المشاركة فيه في عين العلة وجنس الحكم أولى لأن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هي فرع تعدية العلة فهي الأصل في التعدية وعليها المدار.
الثاني أن يكون الفرع في أحد القياسين متأخراً عن أصله وفي الآخر متقدماً فما الفرع فيه متأخر أولى لسلامته عن الاضطراب وبعده عن الخلاف وعلمنا بثبوت الحكم فيه بما استنبط من الأصل.
الثالث أن يكون وجود العلة في أحد الفرعين قطعياً وفي الآخر ظنياً فما وجود العلة فيه قطعي أولى لأن أغلب على الظن وأبعد عن احتمال القادح فيه.
الرابع أن يكون حكم الفرع في أحدهما قد ثبت بالنص جملةً لا تفصيلاً بخلاف الآخر فإنه يكون أولى لأنه أغلب على الظن وأبعد عن الخلاف.

وأما الترجيحات العائدة إلى حكم الفرع وإلى أمر خارج فعلى ما أسلفناه في المنقولات وقد يتركب مما ذكرناه من الترجيحات ومقابلات بعضها لبعض ترجيحات أخر خارجة عن الحصر لا يخفى إيجادها في مواضعها على من أخذت الفطانة بيده.
وقد أشرنا إلى جملة منها في كتابنا الموسوم بمنتهى المسالك في رتب السالك فعليك بمراجعته.
وعلى هذا فلا يخفى الترجيح المتعلق بالاستدلالات المتعارضة بالنظر إلى ذواتها وطرق إثباتها.
وأما التعارض الواقع بين المنقول والمعقول فالمنقول إما أن يكون خاصاً وإما عاماً.
فإن كان خاصاً فإما أن يكون دالاً بمنظومه أو لا بمنظومه فإن كان الأول فهو أولى لكونه أصلاً بالنسبة إلى الرأي وقلة تطرق الخلل إليه.
وإن كان الثاني فمنه ما هو ضعيف جداً ومنه ما هو قوي جدا ومنه ما هو متوسط بين الرتبتين.
والترجيح إذ ذاك يكون على حسب ما يقع في نفس المجتهد من قوة الدلالة وضعفها وذلك مما لا ينضبط ولا حاصر له بحيث تمكن الإشارة إليه في هذا الكتاب وإنما هو موكول إلى الناظرين في آحاد الصور التي لا حصر لها.
وأما إن كان المنقول عاماً فقد قيل بتقدم القياس عليه وقيل بتقدم العموم وقيل بالتوقف وقيل يتقدم على جلي القياس دون خفيه وقيل يتقدم القياس على ما دخله التخصيص دون ما لم يدخله.
والمختار إنما هو تقديم القياس وسواء كان جلياً أو خفياً لأنه يلزم من العمل بعموم العام إبطال دلالة القياس مطلقاً ولا يلزم من العمل بالقياس إبطال العام مطلقا بل غاية ما يلزم منه تخصيصه وتأويله.
ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين على وجه يلزم منه تأويل أحدهما أولى من العمل بأحدهما وإبطال الآخر ولأن القياس يتناول المتنازع فيه بخصوصه والمنقول يتناوله بعمومه والخاص أقوى من العام.
فإن قيل: إلا أن العموم أصل والقياس فرع والأصل مقدم على الفرع وأيضاً فإن تطرق الخلل إلى العموم أقل من تطرقه إلى القياس على ما سبق تقريره فكان أولى.
قلنا: أما الأول فإنما يلزم أن لو كان ما قيل بتقديم القياس عليه هو أصل ذلك القياس وليس كذلك بل جاز أن يكون فرعاً لغيره.
فإن قيل: وإن لم يكن فرعاً لذلك العام بعينه فهو فرع بالنسبة إلى ما هو من جنسه.
قلنا: إلا أن ذلك لا يمنع من تخصيص العموم بالقياس وإلا لما جاز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد لكونه فرعاً بالنسبة إلى ما هو من جنسه وهو ممتنع على ما سبق.
وما ذكروه من الترجيح الثاني فهو معارض بمثله فإن العام وإن كان ظاهراً فيحتمل الخصوص واحتمال ذلك في الشرع أغلب من احتمال الغلط من المجتهد المتبحر على ما لا يخفى.
ولهذا قيل إنه ما من عام إلا وهو مخصوص إلا في قوله تعالى: " والله بكل شيء عليم " البقرة 282 ولا كذلك القياس.

الباب الثاني

في الترجيحات الواقعة بين الحدود

الموصلة إلى المعاني المفردة التصورية

واعلم أن الحدود على اختلاف أنواعها منقسمة إلى عقلية وسمعية كانقسام الحجج.
غير أن ما هو متعلق غرضنا هاهنا إنما هو السمعية ومن السمعية ما كان ظنياً وعند تعارض الحدين السمعيين فقد يقع الترجيح بينهما من وجوه.
الأول أن يكون أحدهما مشتملاً على ألفاظ صريحة ناصة على الغرض المطلوب من غير تجوز ولا استعادة ولا اشتراك ولا غرابة ولا اضطراب ولا ملازمة بل بطريق المطابقة أو التضمن بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أقرب إلى الفهم وأبعد عن الخلل والاضطراب.
الثاني أن يكون المعرف في أحدهما أعرف من المعرف في الآخر فهو أولى لكونه أفضى إلى التعريف.
الثالث أن يكون أحدهما معرفا بالأمور الذاتية والآخر بالأمور العرضية فالمعرف بالأمور الذاتية أولى لأنه مشارك للمعرف بالأمور العرضية في التمييز ومرجح عليه بتصوير معنى الحدود.
الرابع أن يكون أحد الحدين أعم من الآخر فقد يمكن أن يقال الأعم أولى لتناوله محدود الآخر وزيادة وما كان أكثر فائدة فقد يمكن أن يقال بأن الأخص أولى نظراً إلى أن مدلوله متفق عليه ومدلول الآخر من الزيادة مختلف فيه وما مدلوله متفق عليه أولى.
الخامس أن يكون أحدهما قد أتي فيه بجميع ذاتياته والآخر ببعضها مع التمييز فالأول يكون أولى لأنه أشد تعريفاً.

السادس أن يكون أحدهما على وفق النقل السمعي والآخر على خلافه فالموافق يكون أولى لبعده عن الخلل ولأنه أغلب على الظن.
السابع أن يكون طريق اكتساب أحدهما أرجح من طريق اكتساب الآخر فهو أولى لأنه أغلب على الظن.
الثامن أن يكون أحدهما موافقاً للوضع اللغوي والآخر على خلافه أو أنه أقرب إلى موافقته والآخر أبعد فالموافق أو ما هو أكثر موافقةً للوضع اللغوي يكون أولى لأن الأصل إنما هو التقرير دون التغيير لكونه أقرب إلى الفهم وأسرع إلى الانقياد.
ولهذا كان التقرير هو الغالب وكان متفقا عليه بخلاف التغيير فكان أولى.
التاسع أن يكون أحدهما مما قد ذهب إلى العمل به أهل المدينة أو الخلفاء الراشدون أو جماعة من الأمة أو واحد من المشاهير بالاجتهاد والعدالة والثقة بما يقول بخلاف الآخر فهو أولى لكونه أغلب على الظن وأقرب إلى الانقياد.
العاشر أن يلزم من العمل بأحدهما تقرير حكم الحظر والآخر تقرير الوجوب أو الكراهة أو الندب فما يلزم منه تقرير الحظر أولى لما قدمناه في الحجج.
الحادي عشر أن يلزم من أحدهما تقرير حكم النفي والآخر الإثبات فالمقرر للنفي أولى لما سبق في الحجج.
الثاني عشر أن يلزم من أحدهما تقرير حكم معقول ومن الآخر حكم غير معقول فما يلزم منه تقرير حكم معقول أولى لما سبق في الحجج.
الثالث عشر أن يلزم من أحدهما درء الحد والعقوبة ومن الآخر إثباته فالدارىء للحد أولى لما سبق أيضاً.
الرابع عشر أن يكون أحدهما يلازمه الحرية أو الطلاق والآخر يلازمه الرق أو إبقاء النكاح فالحكم فيه ما سبق في الحجج.
وقد يتشعب من تقابل هذه الترجيحات ترجيحات أخرى كثيرة خارجة عن الحصر لا تخفى على متأملها.
وهذا آخر ما أردناه ونهاية ما رتبناه.اللهم! فكما ألهمت بإنشائه وأعنت على إنهائه فاجعله نافعاً في الدنيا وذخيرة صالحة في الأخرى واختم بالسعادة آجالنا وحقق بالزيادة آمالنا واقرن بالعافية غدونا وآصالنا واجعل إلى حصنك مصيرنا ومآلنا وتقبل بفضلك أعمالنا إنك مجيب الدعوات ومفيض الخيرات والحمد الله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم إلى يوم الدين !.

أقسام الكتاب

1 2 3 4 5 6 7 8

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ج32.سنن النسائي *الأحاديث من 5401 إلى حديث رقم -5758-{النهاية}

سنن النسائي *الأحاديث من 5401 إلى حديث رقم - 5758 - حديث رقم -5401 - أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى قال حدثنا هشام بن عروة قال حدث...